أتابع اليوم الكتابة عن بعض أساليب التربية الخاطئة، التي قد تنطوي على شيء من العنف الموجّه للطفل، دون أن نعي ذلك كآباء وأمهات ومربين. وقد ذكرت في مقالي السابق ما يؤكدّ أن العديد من الحالات المرضية التي يعالجها الاختصاصيون في العلاج النفسي تعاني من حبّ والديّ أعاق نموهم وفق طبيعتهم الخاصة وحال دون أن ينطلقوا كشخصيات مستقلة بسبب أن الوالدين يعدّان الأبناء مجرد صورة لهما وامتداد لهما مما يجعلهما يضربان باحتياجاتهم ورغباتهم عرض الحائط. ومن هذا الخطأ الكبير في التربية يتولّد خطأ آخر يدفع ثمنه الأبناء حينما يراود الوالدين شعور بأن ابنهما كلما نما وازدادت طاقته على تدبير شؤونه بنفسه واستقل بشخصيه إنما يفلت من أيديهما، ويخرج عن سيطرتهما، الأمر الذي يهدد شعورهما بأهميتهما!! لذا نجد بعض الآباء والأمهات يرفضون داخليًا القبول بواقع أن الابن ينمو ويستقل فيصرّون على أن يبقى في كنفهم مشمولًا برعايتهم. الأمر الذي يجعل هذا الابن مجرّد تابع لوالديه.. لا يجرؤ على المبادرة بأي شيء ولا يرى العالم إلاّ من خلال عيون والديه.. ولا يجسر على التطلّع خارج أسوار أسرته التي فرضت عليه أن يبقى أسيرهم مسجونًا داخل تبعيته.. وتجد هذين الوالدين يتفاخران بحال ابنهما.. مطلقين مسمّيات غير صحيحة!! فهما يريان ابنهما (عاقلًا)..(مطيعًا)..(مهذبًا)..(بارًا)... الأمر الذي يجعل تسمية الأمور بغير أسمائها الحقيقة عالمًا مزيفًا يعيش فيه هذا الابن.. وهذان الوالدان فشلا -في الواقع- في مهمتهما التربوية لأنهما جعلاه غير قادر على الوقوف على قدميه في معترك الحياة.. وعاجزًا عن شق طريقه في عالم الراشدين بخطوات واثقة وشخصية سوية.. مسلوب حق التمتع بإدارته الإنسانية وحريته في اتخاذ القرار والاختيار والنتيجة الحقيقية التي يحصدها الوالدان هو أنهما خرّجا إلى العالم كائنًا تخيفه الحياة لا يجرؤ على تأكيد ذاته.. يعيش في الظلال.. ويموت لو وقعت عليه الأضواء. والموقف التربوي السليم هو أن يعدّ الوالدان ولدهما غاية بحد ذاته.. أي أن تتنقى محبتهما له من عناصر الاستيلاء والاستحواذ. وأن يتعلّما كيف يتواريان ويحتجبان من أجل إفساح المجال لبروز شخصية الابن. ولن يكون ذلك انكارًا لأهميتهما... ولا انقاصًا من قدرهما بل سيكون ذلك فرصة لأن يستشعروا احتياج ابنهما لهما دون أن يفرضا ذلك ويجعلاه طريقته التي لا يعرف سواها. فحين ينسلخ الوالدان عن روح التملّك حيال فلذات أكبادهم ناظرين إليهم على أنهم أكثر من مجرّد أجزاء منهما وأنهم كائنات قائمة بذاتها وصلًا إلى قمة النضج العاطفي الوالدي الذي يلقّن الأبناء أهم دروس الحياة وهو أن العاطفة الصادقة والنضج الحقيقي ليس هو تحرر الإنسان من حاجته إلى الآخرين بل هو التحرر من بناء حياته على أساس هذه الحاجة. كثير منا.. إن لم نكن كلنا.. نربي أبناءنا ليكونوا عكازًا لنا... ونسعد لو نجحنا في ذلك لكن سعادتنا ستكون أعظم لو وجدناهم يفعلون ذلك دون أن نفرضه عليهم أو نجرّمهم لو لم يفعلوه كما نريد. فمهمة الوالدين أن يهبا الحياة لابنهما لا أن يحتفظا بها ببخل وأنانية...فلا يحيا ابنهما إلاّ من خلالهما.