إن حديثا اليوم يتردد على ألسنة البعض وأقلامهم، كلما ذكر أحد مسألة فقهية فيها اختلاف بين أهل العلم قديماً أو حديثاً، مضمونه أن هناك مرجعية للعلم الشرعي والفتوى رسمية لا يجب أن يخالفها أحد، وأن ما صدر عنها من فتاوى واجتهادات لا تصح مخالفته شرعاً، وأن في ذكر قول لأهل العلم يخالف ما يصدر عنها فيه تشويش على العامة، وكأن العامة ملك لهذه المرجعية تتصرف فيه كما تشاء ولا ينازعه أمرها أحد، والحقيقة أن هذا الدين الحنيف من محاسنه ألا مؤسسة فيه دينية يجب الرجوع إليها، ولها الحق وحدها في بيان أحكامه أو الاجتهاد فيها، فطبيعته ترفض مثل هذا الاحتكار، فالإسلام لا يعرف الكهنوت، ولم يمر في عهود الإسلام كلها أن قصر الاجتهاد والفتوى على عالم أو عدد من العلماء محدود أو على مذهب معين، أو أصحاب تيار يدعون ذلك، بل إن أعلام علماء الأمة الأبرار رفضوا مثل هذا رفضاً قطعياً، ولم يأمر أحد منهم الناس باتباعه وعدم الخروج عن قوله واجتهاده، ويقولون خذوا من حيث أخذنا، فهذا هو الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الثوري والأوزاعي، وخذوا من حيث أخذوا)، وقال: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال)، وكل من الأئمة الأربعة المتبوعين كان ينهى عن تقليده، وإذا وجد الدليل المخالف لاجتهاد أن يضرب بقوله عرض الحائط، إمعاناً في النهي عن التقليد، وقد أخذ من أقوالهم وترك مما نعلم يقيناً، فكيف بغيرهم ممن هو أدنى منهم شأنا وأقل علماً وورعاً، ففي قصر العلم على فئة – من العلماء أيا كان قدرهم، والجزم بأن ما يقولونه هو الحق، وأن ما سواه الباطل، لون من التقديس للرموز لا يعرفه الإسلام، وقد مر الزمان والاختلاف واقع بين العلماء لا يستطيع أن ينكر ذلك أحد، منذ عهد الإسلام الأول وحتى يوم الناس هذا، ولهذا اختلفت أقوال الصحابة رضوان عنهم ووقع بينهم الاختلاف في مسائل كثيرة، كمتعة الحج، وقتال مانعي الزكاة، بل وفي أمر الإمامة والخلافة، وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج، وفي نفقة وسكنى المبتوتة، وفي الجهر بالبسلمة والقنوت، وميراث الكلالة وغير هذا كثير، ولعل مبنى اختلاف التابعين مؤسس على اختلاف الصحابة، رضي الله عن الجميع فهم تلامذتهم وعنهم أخذوا، وما عاب أحد منهم الآخر، ولا أكرهه على قبول فتواه واجتهاده، وعبر هذا استقر في الفهم السوي عند أهل العلم أن الاختلاف السائغ المعتمد على الاجتهاد المأذون فيه، والذي يؤجر صاحبه إن أصاب أجرين على اجتهاده ثم إصابته، ويحوز أجراً لاجتهاده وان اخطأ لا يوجب فرقة بين المسلمين، بل فيه لهم سعة ترفع عنهم الضيق والحرج، ويثري فهمهم لنصوص الشرع المحتملة لمعان عدة، ولم يُلْزَم المسلمون على مر العصور بفتوى فرد أو أفراد أو جهة رسمية أو مذهبية أو تمثل تياراً فكرياً أو سواه، وظلت الفتوى حقاً للعلماء إن بلغ أحدهم رتبة الاجتهاد واتقى الله، ولم يكن الفقيه إن لم يبلغها أن يفتي بمسائل مذهبه، فالقول بالمرجعية في هذا الزمان إنما حديث أوهام لا يقوم على دليل ولا يؤيده واقع، ثم إن التشنيع على من أبدى رأياً مرجعه اختلاف وقع بين علماء الأمة منذ القديم كإباحة الغناء وألا نص صحيح يحرمه، إذا سلم من الفحش، ولم يصاحبه ما يقود إليه، أو كالقول ليس كل تواجد للرجال مع النساء محرما، أو أن الوجه والكفين في المرأة ليسا بعورة، أو أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة ليست واجبة، وأن صلاة المنفرد صحيحة مقبولة، من هذه المسائل المستقر الخلاف فيها من قرون، فإن هذا التشينع من التجاوز على الآخرين الذين لا يؤيده عقل ولا شرع، وإن صاحب ذلك إساءة لفظية إليه انتقل الأمر إلى معصية يجب منعها، فمن ذكر قولا لعالم معتبر أو قلده لم يؤاخذ على ذلك، فمسائل الاجتهاد كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من عمل بقول أحد العلماء فيها لم ينكر عليه، بل لا يصح الإنكار في ما ساغ فيه الاختلاف من الفروع على من اجتهد فيه او قلد مجتهدا فيه كما يقول ابن مفلح رحمه الله، وتزيد دهشتنا من بعض إخواننا إذ قيل لهم أن للعلماء أقوالا غير أقوال من قلدتم وافتيتم بأقوالهم، قالوا أن مثل هذا مؤثر على العامة ويجب الاقتصار على ما أفتى به بعض علمائنا الذين يحبونهم ويقلدونهم، مع أن العامة يتبع للعلماء، ومذاهب العلماء مختلفة منذ أزهى عصور الإسلام، ولم يدعو ذلك الى ما تتخوفون منه، فالعامي لا يستفتي إلا من يثق به من العلماء، والإسلام أوسع من أن يحصر في فتاوى عدد محدود من العلماء أو في أصحاب تيار معين أو من كانوا على مذهب معين، وفي الأمة منهم الكثيرون ممن قد يكونون أقدر منهم على الاجتهاد والفتوى، فهل إخواننا يعقلون عنا هذا هو ما نرجو والله ولي التوفيق.