تفضل صاحب المعالي الوالد الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين بدعوتي للمشاركة في فعاليات اللقاء الوطني الثاني للحوار الفكري تحت عنوان «الهوية والعولمة في الخطاب الثقافي السعودي»، وذلك في يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين 18-19/6/1431ه، بمدينة الرياض، وبمشاركة سبعين من الإخوة والأخوات المعنيين بهذا الشأن وممن لهم مشاركات فاعلة واهتمام في حركة الحوار في المجتمع السعودي، وذلك في إطار سعي المركز لتفعيل الحوار الثقافي بين توجهات المجتمع الفكرية وفيما بين أطيافه المختلفة، والعوامل المؤثرة فيه، وقضاياه الكبرى، وتطلعاته، ومستقبله المنشود في ضوء التطورات المحلية والعالمية، وكان اللقاء منطلقًا من أربعة محاور، بدءًا بخصوصية المجتمع السعودي، وهل هناك اختلاف في خصوصيته عن غيره من حيث وجودها أساسًا وطبيعتها ومقتضياتها، وما تتطلبه مصلحة الوطن في شأنها، ومرورًا بالمواطنة في الخطاب الثقافي السعودي، حيث أنه بالرغم من ضرورة الوطنية لكل مجتمع ناهض، إلا أنها لا تزال غير ساطعة المعالم، وأهمية معرفة معناها ومدى تمثلها في المجتمع وصدق التخوفات بشأنها، وعلاقة ذلك بالعولمة والمجتمع السعودي، وكيفية التفاعل معها، وتحدياتها للمجتمع، وفرص المجتمع السعودي في ظلال العولمة، وأخيرًا مستقبل هذا الخطاب الثقافي السعودي تجاه هذه المسائل الثلاث من الخصوصية والمواطنة والعولمة، وما الذي ينبغي تجاهها في خطابنا، مستشرفين المستقبل للمجتمع في تلك المجالات، مع ضمانات هذا المستقبل المستشرف. وقد استفدت كثيرًا من هذا اللقاء المتميز الذي نقل مباشرة على قناة الثقافية السعودية، وأدرجت مخرجاته وتوصياته في موقع المركز الإلكتروني، حيث تفضل الكثير من الإخوة والأخوات بطروحات أنارت العقول وهدت إلى كثير من المساحات، ومن ذلك ما تفضل به أخي أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام الدكتور عبدالله العويسي حيث فرق بين التميز في الخصوصية وبين التمايز، وكون التميز يعد جانبًا غير محمود لأنه يعني التعالي على الغير، في حين أن التمايز يعد شأنًا طبيعيًا بين جميع البشر، ولذا أمرنا بالمسارعة والمسابقة للخيرات، ومن أجمل التعليقات ما أضافه أخي الدكتور زكي الميلاد حول أهمية التركيز على الهوية الجامعة بيننا وأنها هي المطلب وليست الهويات المفرقة بيننا في خطابنا وسلوكنا، وكان لأخي أستاذ أصول الفقه بجامعة الإمام الدكتور محمد العبدالكريم جملة راقية حيث قال إن الأمة الإسلامية ذات قابلية للتواصل وليس الانغلاق، كما كان لأخي أستاذ الفقه بجامعة الإمام الدكتور سامي الماجد جملة أخرى تكشف مستوى الكوادر الفكرية في مجتمعنا وأنها موجودة بكثرة ووفرة حين قال إن الخصوصية يجب أن تكون آلة للإصلاح وليست معولاً للهدم، كما أن الخصوصية منها شيء مكتسب ومنها شيء مقدر كوني وهذا ما أفادنا به أخي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الإمام الدكتور عبدالله الطريقي، كما أن الخصوصية للتعامل فيما بين الناس وليست للفخر والتميز وإنما هي مسؤولية كما ذكره أخي الدكتور حسن الهويمل، ومن أهم الأمور أن ندرك أن خصوصيتنا أيضاً تعني من الناحية الإيجابية إدراكنا لأهميتها وحسن تصرفنا تجاهها حتى لا نسيء إليها عبر خطاباتنا الفردية والجماعية سواء بالغلو أو الانحلال. ولكن لا يمكن أن ندعي بخصوصية دينية لنا دون غيرنا ونحن نشترك في هذا مع جميع المسلمين الذين يبلغون مائة ضعف لعددنا، كما لا يمكن أن ندعي خصوصية قومية لنا دون سوانا ونحن نشترك في هذا مع جميع العرب الذين يبلغون عشرين ضعفًا لنا، ولا يمكن أن ندعي أيضاً بخصوصية عقدية لنا دون غيرنا ونحن نشترك في هذا مع كثير من المسلمين في أصقاع الأرض، ولا يمكن كذلك أن ندعي بخصوصية مكانية دون غيرنا من جيراننا في دول الجزيرة والخليج، كما لا يمكن أن ندعي بخصوصية فقهية لنا دون غيرنا ونحن نشترك مع الكثير من المسلمين في الفكر والمذهب والفقه المقارن، لأننا قد نصل إلى مرحلة نقفل فيها باب الاجتهاد بل ونقفل باب التقليد لغير الأحياء والمشاهير من العلماء؛ لمن هم من غير المجتهدين بأي مستوى منه ولو باجتهاد التمييز، ولئلا نكمم الأفواه الفقهية ونمنع الاختلافات الجزئية فنضيق واسعًا ونتجمد على أقوال قد لا تناسب ظروفنا الزمانية والمكانية، فالشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولا بد من تحقيق مناط هذه المسلمة الفقهية على أرض الواقع، فمن مميزات خصوصيتنا الاختلاف الثقافي والفكري، وثقافة الاعتدال والتسامح التي يجب أن ننشرها. وأما المواطنة الحقيقية الخالصة فليست التي تظهر نظريًا وعلى الألسن وتغيب عمليًا وعند التطبيق، بل أحيانًا حتى في الأقوال نجد من يخجل عن ذكرها، في حين لا يمل من ترداد الأممية هنا وهناك، مع أن حب الوطن والوطنية والمواطنة غريزة إنسانية بل وحتى في غير البشر من المخلوقات الحية، وهذا نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يردد مبتهلاً إلى الله قائلاً: (اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أشد)، وحين هجرته عليه الصلاة والسلام من مكة قال: (ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك)، مع التسليم بأن الشعور بالمواطنة موجود دائمًا كأصل، ولكنه مرهون قدره بمدى ما ينعم به المواطن من عدالة ومساواة واستقرار مادي وأمان فكري، ولذا فأرى أن المطلوب من السياسي عدم التدخل بالتأييد لأحد الأطراف كما هو الحال، ولكن يجب عليه التدخل لحماية جميع الأطراف، فالاختلاف خير، والخلاف شر ونعوذ بالله منه ومن أهله، والله ولي التوفيق.