ودعت الأحساء في الرابع والعشرين من أبريل 2010م أحد أعلامها البارزين هو الأديب السفير الشيخ أحمد بن علي المبارك، والحديث عن حياة الراحل متشعب، فليس من السهل أنْ نلم بحياته من جميع جوانبها، ولكننا سنحاول تسليط الضوء على اهتماماته الأدبية من خلال هذه الإطلالة العابرة على شعره ونقده ومؤلفاته وأحديته، التي كانت مأوى قلوب المحبين للأدب في واحة الأحساء وما جاورها، وهذه الإطلالة لا تمثل إلا جزءًا مِنْ جوانب حياته الأدبية المليئة بالمحطات الثقافية البارزة، والتي أتاحتها له ظروف بيئته الأحسائية وأجواء محيطه الدراسي في القاهرة، ثم عمله في المجالين التربوي والدبلوماسي. فقد نشأ الأستاذ أحمد بن علي المبارك في أسرة جمعت بين علوم الدين وفنون الأدب.. في مجتمع ساعدت أجواؤه على بروز عدد من الشعراء الذين تركوا بصمات واضحة على مسيرة الأدب في واحة الأحساء الغنية بمباهج الطبيعة ومفاتنها، عندما كانت عيون المياه المتدفقة وسامقات النخيل وأفياء الأشجار الباسقة، مرتعًا خصبًا لخيال الشعراء وإبداعاتهم، يوم كانت للشعر سيادته في الساحة الثقافية على جميع فنون الأدب ودون منافس، فلما انتقل إلى القاهرة للدراسة، وجد في بيئتها الثقافية ما أشعل أوار شغفه بالأدب، وتعرف على أبرز أعلامه، ومن هؤلاء أربعة كان على صلة وثيقة بهم هم: الدكتور عبدالوهاب عزام، والدكتور زكي مبارك، والأستاذ عبدالقادر المازني والأستاذ علي أحمد باكثير، وكان دائم الحضور لمقر مجلة (الرسالة) يوم السبت حين يجتمع كتابها لتصحيح مقالاتهم ومن هؤلاء: العقاد والحكيم وأحمد أمين وغيرهم، ومجلس فيه هؤلاء هو مدرسة، تعددت مشارب روادها، وتنوعت اهتمامات أقطابها، فاستفاد منهم الشاب الوافد إلى أرض الكنانة، يطوي بين جوانحه رغبة عارمة في المعرفة، يتنازعها الطموح في التحصيل العلمي حيث الدراسة؛ والتحصيل الأدبي حيث (الرسالة) والزيات وعمالقة الأدب العربي، وإذا كانت أجواء الأحساء قد غرست بذور الأدب في نفسه، فإنَّ أجواء القاهرة قد رعت هذه البذور لتثمر أدبًا أصيلًا، يرفض كل ما يسيء إلى الذائقة العربية، شعرًا ونثرًا، وعن هذه الفترة يحدثنا شيخنا المبارك ويقول: (الواقع إن مصر كانت معترك الحياة الأدبية في الفترة التي كنت فيها هناك، وكانت لي اتصالات بدأت عندما قرأت في الصحف ما يكتبه الأدباء والشعراء عن بلادهم، وتذكرت أنني من منطقة في آخر جزيرة العرب من جهة الشرق، وأعرف بأنَّ فيها من الأدباء والشعراء من يبزون كثيرًا بعض من نقرأ لهم في الصحف المصرية، ومع ذلك أجد كل من يكتب لا يعرف شيئًا عن أولئك الشعراء وأولئك العلماء، فتاقت نفسي أن أكتب عنهم، ولذلك كتبت أربع أو خمس مقالات وهيأتها للنشر، ثم كتبت رسالة مختصرة وجهتها إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة (الرسالة) التي تعتبر في ذلك الزمن هي القمة في الحياة الأدبية، وقلت له: إنَّ رسالتكم الغراء هي المنبر الحق لبلابل البيان والمرجع العربي الحديث، وأود أن أنشر مقالات متتالية عن أدباء الأحساء فاستجاب لي، إلا أنه طلب مني أنْ أكمل ما لدي، وأنا طلبت منه أن يبدأ بالنشر لتشجيعي ثم بعد ذلك أُكمل فرفض، وبالتالي لم أكتب في هذه الصحيفة، ولكنني استفدت فائدة كبيرة لأني علمت أن الأساتذة الذين يكتبون في مجلة (الرسالة) أمثال عباس العقاد، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين، والدكتور زكي مبارك، والدكتور عبدالوهاب عزام، وعدد كبير من الأدباء الآخرين كانوا يحضرون كل يوم سبت لتصحيح مقالاتهم، لأن الرسالة تصدر يوم الاثنين، فلذلك يطلب منهم أن يصححوا مقالاتهم بأنفسهم، وفي هذه الجلسة يدور حوار ونقاش هو قمة في الأدب، فوجدت أن الباب مفتوح لي من أجل أنْ أستفيد من هذه الجلسات، فكنت أواظب على هذا المجلس واستفدت من الفشل نجاحًا، وقد نجحت فعلًا في أن استمعت إلى هؤلاء الأدباء الكبار وهم يتحاورون، وازددت رغبة في الأدب وإعجابًا به بسبب هذه المجالس). الشعر: بدأ اهتمام شيخنا المبارك بالشعر مبكرًا.. يحفظه ويكتبه، وحرضت ملكة الشعر لديه أجواء عاشها في مسقط رأسه، وأخرى رافقته في رحلة (الأمل والألم) لكنه لم يول الشعر العناية التي يستحقها، إذ اكتفى بكتابة عدد من القصائد والمقطوعات، جُلها من وحي الأحداث التي مر بها، وله في فن المراسلات والإخوانيات باع طويل، ومراسلاته لبعض أعلام جيله خير شاهد على ذلك، وما يعنينا بهذا الصدد ما يتعلق بالشعر، وهو في هذا المجال يذكر قصة زيارة علي أحمد باكثير له في منزله وعودته دون أن يراه: (جرى بيني وبين الأستاذ علي أحمد باكثير موعد، وكنت بانتظاره، ولكن شابا من الذين يعرفونني كان يسكن بجانبي، أخبره أنني من المحتمل أني خرجت بينما أنا في انتظاره، وكان الزمن بعد صلاة التراويح في رمضان، ولما جئت في السحور عرفت من ذلك الشاب الذي أعطاني بطاقة للأستاذ باكثير بأنه جاءني للزيارة بصحبة أخيه حسن، ولم يتمكنا من رؤيتي، كان ذلك عندما كنت طالبًا بالقاهرة، فقلت له ومن قال لك إنني لست هنا، فقال أنك عادة تصلي التراويح في داخل البلد، ولم يكن هذا الشاب يدرك أن عادتي غير موعدي، ولم أستطع أن أفعل شيئًا، وحاولت بعد أن صليت الفجر أن أنام فلم يأتني النوم فكتبت إليه أبياتًا وقدمت لها برسالة، ولكني لا أستحضر الرسالة وإنما أستحضر الأبيات، وأخذت الأبيات إلى الأستاذ باكثير وصليت معه صلاة الجمعة، وأخبرته بما حدث وإنَّ شابًا به شيء من الغفلة هو الذي حال بيني وبين رؤيتكم، أما أنا فقد صورت مشاعري بهذه الأبيات التي أقول فيها: أألوم، أم أطوي الملام بين الجوانح والعظام قصَدَ الكرام زيارتي والليل معتكر الظلام يمشون مشية سادة اتخذوا الوفاء لهم زمام فأبت قساوة شِقوتي وأبى لي الحظ الطغام أن ألتقي بوجوههم فأزيل عن قلبي القتام أأبا كثير يا فتى الفتيان يا نسل الكرام إني وخالقك العظيم ومنشئ السحب الرهام ما خنت يوما وعدكم الغدر من شيَم اللئام بل كنت حِلس غريفتي والقلب يضطرم اضطرام مترقبا لمجيئكم كترقب الشهر الحرام آنًا أكون بركنها وسويعةً وسط الزحام لا أستفيق تساؤلا وتشوقا كالمستهام أين الأحبة أينهم أنسوا المواثيق الجسام؟ أنسوا صديقا صادقا لا يستقر له مقام؟ هذا حقيقة ما جرى وسجيتي صدق الكلام فاعذر أخاك ووفه حق الأخوة والسلام وللدكتور إبراهيم رشيد الحاوي يرحمه الله قراءة مستفيضة في رسائل الشيخ المبارك كما أنَّ للدكتور عبدالرزاق حسين دراسة عن شعره يقول فيها: (والناظر في شعر الشيخ أحمد بن علي المبارك يجد له بعض القصائد التي قالها في صباه ولعل مقطوعته في الحمّى التي بناها على غرار قصيدة المتنبي في الحمّى، تنبئك عن هذا الطموح الشعري، ومع ذلك فهو يفاجئك في نهاية المقطوعة بأن سبب الحمى مغاير لما هو عند المتنبي، يقول: زارت مفتتة العظام وأسرعت في الدب بين جوانح الأعضاء لما رمت مني الضلوع بحرها تركت لرأسي أوفر الأدواء ومعظم قصائد الشاعر التي قالها في صباه ترفرف عليها أحلام ربيع القلب المتفتح، وتغشاها الشكوى). النقد: لعل المتتبع لمسيرة المبارك الأدبية يدرك حسه النقدي، كما يدرك أنَّ وراء ذلك رصيدًا ضخمًا من الثقافة التراثية المتمثلة في حفظه العديد من المطولات من قديم الشعر وحديثه وكذلك حفظه لمقامات الحريري. وفي كتابه (رحلة الأمل والألم) لمحات نقدية جديرة بالعناية حول أدب طه حسين وشعر محمود سامي البارودي وشوقي وحافظ وإسماعيل صبري، كما أن له في شعر المتنبي نظرات نقدية جديرة بالاهتمام. ورواد الأحدية المباركية يحفظون له عنايته بالناشئة وتوجيههم توجيهًا أدبيًّا، مصحوبًا بدقة الملاحظة والرفق بأصحاب المواهب الجديدة، وهو في ذلك لا ينتهج مدرسة نقدية محددة، ولكنه يعتمد على حسه الأدبي في إدراك مكامن القوة والضعف في القصيدة أو القصة أو غيرهما مما تحفل به الأحدية، في أمسياتها المتنوعة الجميلة، وذلك وفق نظرته التراثية للأدب التي تأبى التخلي عن أصالة الشعر وقوته، وترفض محاولات التحديث التي تنحرف بالشعر عن قواعده وأهدافه، وفي هذا المعنى يقول: (أما في ما يختص بالشعر الحديث، فإن منهجي هو العدول عن هذا اللون من الشعر، نظرًا لأني أعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه معول لهدم أدبنا العربي، الذي يحتفظ به تراثنا العريق، الذي لا يضاهيه أي أدب في العالم، ذلك لأن صدق حس العربي بالشعر لا يوجد في أي أمة أخرى، ولو وجد لما عدلوا عنه، فالموسيقى التي يحس بها سامع الشعر العربي لا يستطيع أن يجدها في شعر أمم أخرى مهما كانت عريقة في الثقافة، ومهما كانت عريقة في الحضارة، فالعرب لهم خاصية.. ولعل لصحرائهم الواسعة الصامتة الهادئة التي ليس بها ضجيج، الأثر الكبير في صدق حسهم في قول الشعر، ولذلك يتغنون به من غير أن يقاطعهم وبغير أن يفصلهم عن الاستصاخة إلى وقعه في نفوسهم شيء، حتى يعدل منه ما مال، فأصبح عندنا ستة عشر بحرًا من الشعر هي غاية في الروعة، ولا تستطيع أمة أخرى أن تمتلك نظيرًا لها، فلذلك أنا أعتبر من يعدل عنها إلى غيرها إنما يريد أن يطوي هذه الصحيفة الناصعة البياض، هذه الصحيفة العريقة في التراث يريد أن يطويها وأن يستغني عنها). وهو في حكمه هذا ينسجم مع الذائقة الشعرية التي يؤمن بأصالتها، وقدرتها على مواجهة تيارات التغريب الوافدة. التأليف: ورغم هذه التجربة العريضة مع الأدب، فإن مؤلفات الشيخ المبارك ظلت مخطوطة حتى الآن، ولم يصدر منها سوى: • رحلة الأمل والألم. • سوانح الفكر. • عبقرية الملك عبدالعزيز رحمه الله. • رسائل (في المودة والعتاب والاعتذار والرثاء). • سفير الأدباء وأديب السفراء (ديوان شعر). الأحدية: كانت الأحدية أحد أهم وأبرز الملامح الثقافية في الأحساء بعد أنْ أصبحت ملتقى المثقفين، إذ إن روادها من الأكاديميين من جامعة الملك فيصل وفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والشعراء والأدباء والإعلاميين والشباب المتعطش للأدب في الأحساء، يشكلون رصيدها الدائم، وهم على صلة وثيقة بها، لما يجدونه في أجوائها من ألفة ومحبة ونقاش هادئ رزين، وطرح ثقافي متنوع، ويحدثنا الشيخ المبارك عن الأحدية قائلًا: (الفكرة في الحقيقة اختمرت في ذهني عندما كنت مداومًا على حضور ندوة المغفور له إن شاء الله الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي، فقد كانت ندوة محبوبة تسعى لها القلوب قبل الأجسام، وكنت من المرتادين لها خصوصًا بعد أن نقلت وزارة الخارجية إلى الرياض، وكنت أحافظ عليها ليلة الجمعة (مساء يوم الخميس) ولكن تاقت نفسي عندما قاربت على الإحالة إلى المعاش أن أبني لي بيتًا في مسقط رأسي في الهفوفبالأحساء، وأن أستقر بين إخواني من أهل الأحساء، وأن أسهم معهم في أي شيء من النشاط أكلف به نفسي من أجل النهوض ببلدي، فبعد أن انتهيت من بناء المجلس، وقاربت على الإحالة إلى التقاعد، بدأت هذه الندوة عام 1411ه والتزمت فيها ما لم يلتزمه الأستاذ الرفاعي ولا الأستاذ عبدالمقصود خوجة في جدة ولا الدكتور راشد المبارك في الرياض، فقد التزمت أن يكون فيها كل يوم أحد محاضرة متنوعة بعضها في الأدب، وبعضها في التاريخ، وبعضها في الشؤون العامة التي تهم المجتمع وتنهض به في مختلف العلوم، والحمد لله كانت هذه الندوة عامرة بالأساتذة الذين يعتبر الحوار بينهم مدرسة من المدارس الثقافية الرائعة التي يستفيد منها شبابنا، وهذا هو المقصود من إعلانها فهي تسهم في نشر الثقافة جهد الاستطاعة). وعن سياسة الأحدية في التعامل مع من تستضيفهم من الأدباء والشعراء يقول: (نحن لا نتدخل، ولكنهم يعرفون منهجي، لأنني لا أرضى إلا بالشعر العربي الموزون المقفى، فإذا قلت الشعر الموزون المقفى فلست أقصد المنظوم، فالنظم ليس هو الشعر، إنما الشعر هو الذي يهزك عند سماعه كما يقول الشاعر: إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقًا أن يقال له شعر فلذلك عرف الجميع رغبتي وحرصي عليه، فلم يستطع أولئك الذين تنكبوا عن هذا المنهج أن يعرضوا بضاعتهم في هذا المكان). أما عن أهم ما يطرح في الأحدية فيقول: (الواقع أن هذه الندوة أخذت من كل ناحية خصائصها فأحيانًا تكون مواضيعها أدبية، وأحيانًا دينية، وأحيانًا تاريخية، وأحيانًا حول الزراعة، وأحيانًا حول التجارة، وأحيانًا حول إدارة الأعمال، وهي في الحقيقة نوع من التطور في الأحاديث، ثم إن هذه الندوة لها خصائص لم توجد في المجالس السابقة). هذه بعض الأضواء على جوانب من الحياة الأدبية للراحل الشيخ أحمد بن علي المبارك رحمه الله اعتمدت في كتابتها على كتابه (رحلة الأمل والألم) الذي كلفني بالإشراف على طباعته، ومقابلة صحفية سبق أن أجريتها معه ونشرت في أحد أعداد مجلة الخطوط السعودية (أهلا وسهلا) ولقاءاتي الشخصية مع الفقيد، ولا تزال الحاجة ملحة لاكتشاف جوانب جديدة من حياة الراحل العلمية والعملية، حيث تغرب طلبا للعلم وهو في الخامسة عشرة مِنْ عمره، وبعد أنْ أنهى دراسته الجامعية في القاهرة، عاد ليعمل في التعليم حتى أصبح مديرا عاما للتعليم في منطقة جدة إلى أن نقلت خدماته لوزارة الخارجية حيث عمل في سفارات وقنصليات بلاده بالأردن، والكويت، والبصرة، وأكرا عاصمة غانا، ودولة قطر التي كان أول سفير للمملكة بها، إلى أن تقاعد ليعود إلى معشوقته الأحساء بعد رحلة حافلة بالتضحية والعطاء في خدمة الوطن، وليستمر عطاؤه في الواحة الخضراء التي منحها حبه ووفاءه، وليشارك في حياتها الأدبية والثقافية، فاتحًا أحديته وأمسياتها لمحبي الثقافة، ومكتبته الخاصة العامرة بأمهات الكتب.. لطلاب الدراسات العليا، وأهم مِنْ ذلك قلبه الكبير لكل مَنْ أراد الاستفادة من علمه وتجاربه، من طلاب العلم وغيرهم، وقد شارك الجميع أفراحهم وأتراحهم، فنال محبتهم وتقديرهم.. وكان أبًا حانيًا وأخًا كريمًا لكل من عرفه عن قرب، وعرف فيه عفة لسانه، ولين جانبه، وكرم نفسه، وسمو أخلاقه، وغزارة علمه، وحماسته لقضايا دينه وأمته ووطنه، وما حفلت به حياته من الدروس والعبر، كما هو حال الرعيل الأول من أعلام هذا الوطن البارزين.