وجوه الإبداع العلمي والفكري في هذه الأمة سلسلةٌ لا تنقطع، وعقد لؤلؤي مُطعّم بأنواع من الجواهر المُضيئة التي تُضيء للناس دروبهم، وتُزيح عنهم ظلمات الجهل والخرافة. وما تركه وخلّفهُ علماؤنا على مر القرون من تراث علمي وفكري هو من فضل الله علينا وعلى الناس جميعًا، فما من فنٍ أو بابٍ من أبواب العلم والفكر إلاّ وألّفَ فيه علماؤنا ورسموا مناهجه وقعّدوا قواعده، حتّى سبقوا غيرهم ومهّدوا لمن جاء بعدهم. وهناك مشاريع انتهض وانتدب لها رجالٌ عظام، لم تلههم تجارةٌ ولا بيعٌ عن نشر العلم والقيام بواجبه؛ فكانت هذه المشاريع علامة فارقة، ونقطة تحوّل حقيقية في مسيرة العلم، بل وفي مسيرة التديّن والتعبّد لله عمومًا! ومنها: ذلك المشروع العلمي الجبار الذي قيّضَ الله له من الرجال مَن قاموا بحقه، وأعني به: مشروع حفظ حديث وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح والمسانيد والمصنفات، وما تبعه من مشاريع من أمثال: تمييز الصحيح من السقيم، وشرح الحديث وبيان غريبه... إلخ فحفظوا للناس حديث نبيهم، وبالتالي ركنًا رئيسًا من أركان التعبّد والتشريع. ومن ذلك أيضًا: تدوين الفقه الإسلامي، سواء فقه المذاهب، أو فقه الخلاف. ولأن الخير في هذه الأمة المحمدية، وفي علمائها، وفقهائها لا ينقطع بفضل الله تعالى، وجهودهم الفكرية متواصلة، ونفعهم للخلق مستمر، ففي هذا العصر، ومنذ سنوات قريبة خلت تقوم جهود جبارة عظيمة لإعداد موسوعة علمية تجمع قواعد الفقه، وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة في موسوعة واحدة، واصطلح على تسميتها بمعلمة القواعد، وإن كان مصطلح (الموسوعة) ألصق وأليق بالجهد المبذول. وهذه المعلمةُ الموسوعية وبحسب تعبير أستاذنا الشيخ الجليل أ.د جمال عطية “مدير المعلمة” عبارة عن: مسح شامل ودقيق وواسع لما تمّ تدوينه في كتب التراث والمؤلفات المعاصرة في الأنواع الأربعة سالفة الذكر، مع التبويب والشرح والتمثيل والربط بالواقع! وهي كما وصف الأستاذ والعالم المقاصدي وأحد أركان هذا العمل أ.د أحمد الريسوني، حين قال: (إنني أعتبر هذا المشروع أهم مشروع في تاريخ الإسلام بعد تدوين السنة النبوية)! ويُعلل الشيخ الريسوني ويقول: إذا كان تدوين السنة يُمثِّل جانب الرواية للإسلام، فإن تدوين قواعده وضوابطه بتطبيقاته يُمثل جانب الدراية! هذا المشروع يدعمه ماليًّا مؤسسة الشيخ زايد رحمه الله، ويعمل تحت مظلة: مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ويُشارك فيه نخبة من العلماء والباحثين من مختلف العالم الإسلامي. وهو جهدٌ فكريٌّ وعلميٌّ يُقدّم أنموذجًا رائعًا للعمل الإسلامي، وهو خير دليل لمكانة العلماء وحرصهم على نفع الأمة، إنه وبحق مشروع العصر! أتمنى ممّن يتهم العلماء بالقصور وعدم تقديم مشاريع نافعة أن يطلع على هذا المشروع ليعلم أن العبرةَ بالأفعال لا بالشعارات! [email protected]