موضة، صرعة، تقليد، محاكاة، اجترار: كلّها في الجملة صفات يجمعها قاسمٌ مشتركٌ عنوانه الإفلاس، وخصيصته البلادة، والدفاتر البالية!! تلك بعينها صفات لازمة لبرامجنا الحواريّة على قنواتنا الفضائيّة أشْبه بملازمة الظّرف بالمظروف؛ بعد أنْ أضحت تلك البرامج بفعل العدوى والإفلاس صورًا مُسْتنسخةٌ من بعضها البعض باستثناء برنامج أو اثنين تبثّهما قناةٌ واحدةٌ، أو قناتين على أكثر تقدير؛ يجدر بعقلك تلقّفها والإفادة منها، أمّا البقيّة الباقية فلا أثمٌ، ولا جرم إنْ طلقتها طلاقًا بائنُا - كما هو الحال في لغة القضاء-. إنَّ الصّوت الحواريّ كسياسة إعلاميّة مطلبٌ حضاريٌّ محمودُ الجوانبِ، حسنُ العواقب إذا حمل بين دفّتيه لغة راقية تُنبئ عن حسٍّ فكريّ؛ ولكنّه قد يصبح مسفّاً ساقطًا إذا وقف عند حدّ التّكرار والاجترار، ويزيد ذلك الإسفاف والقبح إذا تجاوزه إلى السبّ والشتم و"التهارش اللّساني"على حد تعبير المفكر السعودي د.محمد الأحمري. الشيء المؤلم حدّ الوجع أنّ تلك البرامج انتشرت في السنوات الأخيرة كانتشار الفتاوى الشّاذّة، والأغاني الهابطة؛ فالأولى قاتلةٌ مميتةٌ، والثانية نَجسة من عمل الشيطان، وفي كلتا الحالتين لا نجنى منهما سوى سرابيل جمّة من المنكرات والمهلكات، ونياشين عديدة من الدّمار والخراب، والغواية الشيطانيّة!! وممّا يزدك حنقًا أن بعض مقدميّ تلك البرامج لا يملّ ولا يكلّ من تكرار اسطوانته البالية؛ اجترارًا للأفكار العقيمة، والاسقاطات البالية؛ وكأنّ قضايا الأمّة والوطن –خاصّة- خلواً من أيّ مشكل إلاّ من تناحر ما بين الإسلاميّ من جهة، ولليبراليّ من جهة ثانية: إنّه الدّفتر العتيق الذي تجاوزه الزّمن وأصبح في عِداد الأموات يحمله نعش من الخراب واليباب!! هو إذن: دفترٌ واحد خَرِبٌ فَعَلَ فيه الإفلاس فِعلته؛ بل هي صَفْحةٌ واحدةٌ عمل فيها التّآكل عمله!! خذ مثلاً: إحدى القنوات الوليدة تتحصّن –بحق- ببعض البرامج المتّزنة؛ طرحًا وفكرًا، ورؤية؛ ولكنّها أَسْقطت على المتابع من كل يوم جمعة ب (برنامج) يعقب الخطبة في ذات اليوم فيه من السّخف، والقبح، والتّكرار المسّف ما يندّى له الجبين، وممّا يزيدك تهكمًا وسخريّةً تلك اللغة التي يحملها المحاور وهو يعتصر الألفاظ اعتصارًا كأنّه يلِدها ولادةً أشبه ما تكون بولادة البقرة المتعسّرة في الشّتاء البارد!! وهذا لعمري لهوَ المرض عينه الذي يفسد علينا لغة الحوار في مجتمع ظلّ لسنوات عِجاف لا يعرف إلاّ الصّوت الأحاديّ؛ ما أخرج لنا مجموعة من أهل الضّلال: قتلة وتكفيريين!! إنَّ مشاهدة أمثال هذه البرامج يُثير اللّوعة، ويبعث على الغثيان. وإنّ أمثال هؤلاء المقدّمين لها أبوا إلاّ اصطناع ألوان من الحوار التّافه الفقير كلّ الفقير من المعاني الحيّة، والأفكار الخلاّبة، والسجال المثمر البنّاء. أيّها السّادة علينا التَنبّه إلى أنّ السير على هذا المنوال من الحوار يفقده رونقه ويصرف عنه بهاؤه؛ لأنّ الحوار في جوهره صوتٌ عقليٌّ ينمّ عن وعي فكريّ بخطوط التّفاعل البشريّ وتنوّع مشاربه، ومن هنا كانت الدّعوات الملحّة من أولي النهى إلى (تقعيد) القواعد الحواريّة بين الأطراف المختلفة؛ للخروج برؤية متجانسة تنفع العباد والبلاد. كنت أتمنى على قادة تلك القنوات تحسسّ ما ينتج عن تلك البرامج من عواقب سيئة، قبل أن يتخرج من تحت عباءتها كُتل متمردة لا تعرف من لغة الحوار سوى السبِّ والشتم والقدح، والكلام الممجوج المسف!! قل لي بربك: "كيف يتشكّل لنا جيل ناجح مثابر متقدّم، وهو يرى رجلين يتناطحان حول لا شيء، ليضحك النّاس عليهما، ولتنتقل متعة المصارعة بالأجسام إلى المصارخة بالكلام" ؟!