لئن كان المثل العربي القديم قد أشار إلى أن “الفتاة سر أبيها”، فإن هذا المثل يأخذ بعدًا “فنّيًا” بحسب العلاقة بين الفنانه نجلاء السليم ووالدها رائد الفن التشكيلي السعودي الراحل محمد السليم.. فهي ترسم صورته في مظهر المربي والموجه لها، والآخذ بيدها في مسيرتها الفنية إلى حين رحيله، متأثرة به في أسلوبه “الآفاقية”، غيرها أنها تفي بشدة أن يكون قد أجبرها أو ضغط عليها لتأخذ المسار الذي اختطه في حياته، مشيرة في ذلك إلى “ديمقراطيته” بترك حرية الاختيار لها ولبقية إخوتها وأخواتها.. نجلاء.. لا تبدو متضايقة من آراء النقاد “القاسية”، ولا تكترث حتى لمنتقدي مشاركتها في معرض أقيم بأبوظبي، في الوقت الذي تشيد بكل نقد بنّاء، وآراء مفادة حتى من قبل الأطفال.. مسيرة نجلاء والعثرات التي واجهتها وتفاصيل علاقتها بأبيه طي هذا الحوار... معايشة لصيقة * بوصفك ابنة أحد روّاد رائد للحركة التشكيلية السعودية.. فماذا يمثل لك هذا؟ كم هو جميل ورائع ذلك الإحساس أن يكون رائد الحركة التشكيلية هو والدي؛ لأنني كنت محظوظة بأن أرى رائد الفن التشكيلي عن قرب، تعايشت معه فكنت من أكثر الناس معرفة به وبكل صغيرة وكبيرة في حياته. تفاصيل حياته وفلسفته للأمور ومحطاته الفنية المختلفة والصعوبات التي كانت تواجه والتحديات التي قام بها وكل الجهود التي بذلها تجاه العقبات المتتالية التي رفعت والدي إلى الأعلى الريادة. فهو نموذج حي عن الإنسان الذي يحمل رسالة وتصميمه على توصيلها. وهذا الأمر له جانب آخر الجانب المسؤول عن ذلك الإرث الفني والذي يحمل هوية وطن، والذي وجدت نفسي أحمله على عاتقي، ومن المؤكد أن لي دور ورسالة عظيمة في تحقيق الوسيلة للحفاظ عليه. ديمقراطية الاختيار * في ضوء ما تقولين.. هل كان اتجاهك للفن نابع من رغبة أما هو إجبار من والدك؟ في الحقيقة لم أكن أتوقع أن أسأل مثل هذا السؤال لأنه غريب.. فلم يكن والدي يجبر أحدًا من أبنائه الثمانية على الفن؛ ولكن إذا كانت البيئة من حولك هي بيئة فنية، فالمرسم في البيت في غرفة جلوس العائلة في معظم الأوقات، ورائحة الألوان والتنر هي رائحة البيت الاعتيادية، والحديث بيننا عن اللوحات والفن والفنانين، وطرح الآراء حول الألوان والتكوين والخطوط والأسلوب، بجانب أصدقاء الأسرة وقوامهم من الفنانين أيضًا، وأحاديثهم الفنية التي كانت التي تعج في جنبات البيت، في ضوء كل ذلك ماذا تتوقع أن تكون غير فنان. فلا يحتاج الموضوع إلى إجبار؛ إنه الوسط الطبيعي الذي أعيش فيه، ورغم ذلك فإخواني وأخواتي تفرقوا في اهتمامات شتى، فمنهم الطبيبة، ومنهم المهتم بالأدب الإنجليزي، ومنهم من تخصص في الكيمياء الحيوية وأخرى بصريات، وأخي طارق أخذته تقنية معلومات في علوم الحاسب الآلي؛ ولكنهم جميعًا مارسوا الرسم لفترة، واستقلت بعدها كل شخصية منهم بما يناسبها.. حتى أنا أختار لي الوالد رحمة الله عليه كلية العلوم قسم الكيمياء، فلم أحبّذ دراسة الفنون في كلية الزراعة آنذاك بجامعة الملك سعود وفضلت أن أدرس الكيمياء في قسم العلوم لأنني كنت بارعة في هذه المادة، وفضل أن تكون الفنون هواية ضمانًا للمستقبل.. كنت أمارس الرسم والفن منذ الصغر بانتظام إلى أن تزوجت وانتقلت إلى جدة حيث كان يقيم زوجي حتى انتهيت من دراستي الجامعية ونلت بكالوريوس العلوم في قسم كيمياء، وخلالها أنجبت أول طفلين؛ عندها بدأت انشغل بأولادي ودراستي. على خطى الآفاقية * برغم ما تشيرين إليه من إعجاب بأعمال والدك إلا أن أثره الفني لا يظهر على أعمالك.. فلم ذلك؟ بالعكس أعمالي متأثرة بأسلوب الوالد رحمه الله؛ “أسلوب الآفاقية” و هو تأثر طبيعي لأنه من المعروف أن التلميذ يتأثر بمعلمه فكيف ابنة بأبيها؛ فتعلمت منه طريقة مزج الألوان بالسكين وتناول الفكرة، وتعلمت منه حتى التشبع، فقد كنت معه خطوة بخطوة، فالآفاقية هي أخت لي، لنا نفس الأب، وكبرنا في نفس البيت هو بيت السليم. في الفترة الأخيرة حاولت بقدر المستطاع أن أخرج ولو قليلاً عن الأفاقية بمعنى تطويرها وليس الوقوف عندها، وهذه المرحلة سوف تأخذ الكثير من الوقت والجهد حتى أصل إلى ما أتمنى الوصول إليه، وهي المرحلة التي أبدأ فيها بالتميز بأسلوب جديد منشق من الآفاقية وامتداد له. تأثري بالآفاقية الكثيرون يجدونه من العيب أو تقليد أعمى لأسلوب الوالد وهم من النقاد والفنانين؛ لكني أجده من الطبيعي بل هو أمر تلقائي، وأعتبر تأثري بأسلوب الوالد محطة طبيعية لابد منها، ومنها أنطلق إلى أجواء أجد فيها شخصيتي لأتميز بأسلوبي المنفرد. ضد الضغط والإجبار * تواصلك مع أسلوب “الإفاقية”.. هل جاء نتيجة ضغط وإجبارك من قبل والدك الفنان السليم؟ كما أسلفت لك أن والدي الفنان محمد السليم لم يكن أسلوبه الإجبار والضغط على أولاده لتوجيههم وتربيتهم. كان رحمه الله يوجهني سواء في مجال الفن أو أي مجال آخر بأسلوب طرح كل ما هو ممكن ومتاح ويترك لنا الاختيار واتخاذ القرار والممارسة والتجريب، كانت هي الحد الفاصل للتأكيد وتحقيق الفرص المطلوبو. ففي المجال الفني لم يكن والدي يمسك يدي ويعلمني الرسم؛ بل كان يرسم وأنا أجلس بجواره أتأمل كل خطوة من خطوات تنفيذ اللوحة، وخلال هذه التأملات يسألني عن أشياء وأجاوبه وأسأله ويجاوبني، فنخرج أحيانًا عن سياق الموضوع إلى مواضيع مختلفة ونعود إلى اللوحة مرة أخرى، كان الموضوع هذا يمضي بشكل روتيني ويومي، في كل يوم استقي جرعة فنية حتى جاء اليوم وبتلقائية بدأت أفكر في الرسم وعلى لوحة وبالألوان الزيتية التي كان يستخدمها والدي وبأدواته الخاصة وعلى حامل لوحاته الذي يحمل اللوحات أثناء الرسم، وبدون علم من والدي رسمت أول لوحة زيتية كانت صغيرة الحجم، والألوان التي استخدمتها كانت من بقايا الألوان التي تركها والدي على الباليته الخاصة به، وأضفت ألوانًا أخرى واستكملت اللوحة، وبعد أن انتهيت انتظرت علقت لوحتي الصغيرة في مواجهة باب البيت حتى يرى والدي اللوحة قبل أن يرى أي شئ آخر، وأحببت أن أقرأ تعبيرات وجهه الأولى عند روية لوحتي لأول وهلة، وعندما أتى والدي ونظر إلى اللوحة.. كم كانت جميلة تلك الابتسامة التي أضاءت وجهه المتعب من عناء العمل اليومي، وكأني انتظر هذه اللحظة منذ زمن وهي أن أصل إلى إرضاء والدي؛ لأن إرضاءه هو المعيار الأعلى إلى النجاح. قواعد راسخة * إجمالاً.. ما الذي استفدته من والدك؟ والدي هو سبب وجودي في هذه الحياة، وهو الذي علمني ورباني وأسسني بقواعد راسخة منها أطلق إلى حياتي المستقلة، فتعلمت منه كل مبادئي وقيمي وأساسها أن لكل إنسان رسالة فلم يخلق عبثًا وأن هذه الحياة منها من يعيش ليأكل وفيها من يأكل ليعيش وكلاهما ينتهيان بالموت، أما الثالث يعيش ليعمر وينجز ويترك بصمة فلا ينتهي حتى بموته فتبقى آثاره وإنجازاته تتحدث عنه. تعلمت أن الحب والخير والجمال هو الفن، وأن الفنان لا يقل أهمية عن هؤلاء المؤرخين الذي يسجّلون بأقلامهم أحداث التاريخ؛ فالفنان يسجّل ثقافة الأمم على أسطح اللوحات. وتعلمت منه كذلك كل ما أعرفه الآن وما سوف أتعلمه، فحتى ما تعلمته بعد وفاته هو منه أيضًا. للحكم للآخرين * ألا تبدو ظلال اسم والدك ماثلة في النجاحات التي حققتها خلال السنوات الماضية؟ في هذه أترك الحكم لغيري.. أما دوري أنا كفنانة تشكيلية هو أن انشغل بلوحاتي ولا انشغل بمثل هذه الأمور، ربما هو من اهتمام غيري. مشاغل أسرية * إلى أي شي تردين قلة مشاركات الفنية برغم ما أنجزته من لوحات؟ نعم كنت مقلة في المشاركات؛ علمًا بأني لم أتأخر عن المشاركة في حال علمي أن هناك مناسبة فنية، ولكن لم أكن متواصلة مع الفنانين والفنانات، وبعد تنقلاتي الكثيرة من الرياض أولاً وهي مسقط رأسي إلى مدينة جدة بعد أن تزوجت بدأت بالتواصل مع فنانات جدة التي اكملت فيها دراستي الجامعية من جامعة الملك عبدالعزيز كلية العلوم قسم الكيمياء، وأنجبت أول طفلين، ولم أستطع بعد ذلك أن أرسم لوحة واحدة، فمسؤولية الأطفال وإنهاء دراستي الجامعية كان لهم الأولوية في حياتي. وانتقلت بعدها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية فوجدتها فرصة جيدة لأستعيد حبي للفن وأحصل على بكالوريوس ثانٍ في الفنون الجميلة، فهذا لا أعتبره انقطاعًا لأنني مارست وشاركت في العديد من المعارض، وبيعت لي أعمال هناك. وعندما عدت إلى السعودية في عام 93 م إلى جدة بطبيعة الحال شاركت في معرض الواعدات الأول والثاني واللذان أقيما في جدة، وأيضًا شاركت في معرض الفن المعاصر والذي أقيمت في مركز «كرى» الخاص بالفنانة منى القصبي. وفي عام 97 م توفي والدي المرحوم محمد السليم وكان هذا الحدث له أثر سلبي وقوي على نفسي، فجمعت كل ألواني ولوحاتي وفرشي وأغلقت مرسمي حزنًا مريرًا علي فقدان الغالي على قلبي، ومعلمي في هذا المجال. مجال الفن وداعمي كأب في حياتي الشخصية، وبقيت بعدها فترة ليست بالقصيرة ربما سنوات حتى عدت لمرسمي وألواني ولوحاتي من جديد. وانضممت كعضوه في جماعة ألوان وكان لهم الفضل في علاقاتي وتواصلي مع فنانين وفنانات الساحة التشكيلية، وها أنا أعود من جديد. دافع قوي * شاركت في معرض بأبوظبي.. فما صدى تلك المشاركة؟ هي من الأنشطة الأخيرة والتي رأيت فيها تجربة رائعة على جميع المستويات. فهذه المشاركة أضافت لي الكثير بمجرد الخروج من أجوائي المنغلقة إلى أجواء ذات انفتاح وتضخم ثقافي فني ومن خلال التجمع الفني الكبير ساعدني على التعرف على العديد من الفنانين والفنانات والعديد من صالات العرض المشهورة فلم يكن هدفي من خلال هذه الزيارة ماديًّا بقدر ما كان تبادلاً ثقافيًّا، والخروج بفني إلى ما هو أشمل وأعم. وبالفعل ردود فعل المتلقين الإيجابية أعطتني دفعة أقوى وحماسًا أكثر إلى تكرار المشاركة مرارًا و تكرارًا؛ ولكن في مناسبات أكثر تنظيمًا. فوائد مجنية * لكن هناك من يصف تلك المشاركة بغير الناجحة.. فما قولك؟ بعضهم يرى ذلك.. وهي وجهة نظر.. ومن حق أي فنان أن يقرر حسب ما يراه مناسبًا. وأنا لم أفهم وجهة نظرهم هذه.. ولم تقنعني، فكيف يكون بقاء الفنان في مرسمه أفضل من أن يخرج ويبعث بفنه إلى الخارج بغض النظر عن الأهداف الترويجية أو التسويقية. وإن كانت هناك بعض الشركات التي تتصيد الفنانين فليكن، ما دام قراري في النهاية عرض وطلب. والفائدة التي تعود على الفنان من الخروج والمشاركة في الخارج هي بقدر الفائدة التي يجنيها الفنان من المشاركات الداخلية إن لم تكن أكثر.. ربما لم تكن مشاركتي مثالية أو كيفما أردت، ولكن كانت دفعة مشجعة قوية لي شخصيًّا، ربما غيري لا يحتاج إلى هذه الدفعة لديه ما ومن يدفعه. وهذه الدفعة احتجتها بقوة وفي هذه الفترة بالذات وتغاضيت عن كل سلبيات الموضوع حتى أحصل على هذه الدفعة. وبالفعل بدأت أتلمس ثمارها ولله الحمد. مهمة النقاد * الفن التشكيلي النسائي برأي البعض لا يزال ضعيفًا مقارنة مع فن الرجل.. هل يبدو لك كذلك؟ ربما .. أترك هذا السؤال مرة أخرى للنقاد فهذا هو عملهم.. أما أنا فأجاوبك فقط بعرض أعمالي عليهم وأتقبل ما يقولون وبصدر رحب. ضد الإحباط * غالبًا ما تتعرض التشكيليات لنقد قاسٍ من بعض النقاد.. فهل يسبب ذلك لهن إحباطًا؟ المفترض أن النقد لا يسبب أي إحباط إذا كانت تتطلع الفنانة إلى ما هو أعلى.. ولا يمنع أن تسمع الفنانة التشكيلية كل ما يقال ويكتب لتأخذ بعد ذلك ما تقتنع به وتترك مالا يناسبها. كلنا يعلم أن للنقد دور مهم وبناء في تحريك وتطوير الحركة الفنية وذلك إذا كان النقد على أصوله العالمية ولا يتأثر العلاقات أو المصالح الشخصية.. أنا شخصيًّا تعرّضت لمثل ذلك الحدث مرارًا وتكرارًا من والدي.. ولكن كنت أشعر أنه يدفعني للأصلح وما هو أنجح.. نعم كان يؤثر في نفسي قليلاً، فنفس الإنسان جلبت على سماع المدح والإطراء.. ولكن لك أن تبدل هذا الشعور السلبي بآخر إيجابي وتتأمل قليلاً لتميز نوعية هذا النقد. اهتمام بالنقد * إلى أي حد أسهم النقد الفني في مسيرتك؟ النقد له دور كبير في حياتي وهي مرحلة أساسية بعد عرض أعمالي الفنية.. ويهمني أن أسمع كل الآراء والانتقادات المختلفة من المتخصصين ومن غيرهم المتلقين العاديين.. أحتاج دائمًا أن أسمع كلٍ بعبارته التلقائية حتى من الأطفال، فلهم تعليقات أجدها أحيانًا مهمة ولم أدركها إلا بعد أن لفتوا انتباهي لها. وعمومًا لا أتأثر بسلبية تجاه النقاد، كما أنني لا آخذ بكل ما أسمع.. فأنا ارسم وأقدم فنًّا؛ ومن حق أي متلقي أن يستحسنه أو العكس.