الفخر بالأحساب سوء سلوك ظاهر تأباه النفس السوية، فضلاً عن النفس التقية المؤمنة. وهو من طبائع الجاهلية التي نادى الإسلام بإزالتها، إذ قال جل من قائل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (كلكم لآدم، وآدم من تراب..). والحسب مهما ارتفع في نظر صاحبه هو في نهاية المطاف من تراب، وإلى تراب. بيد أن شيئًا من الفخر بغير الأحساب كانت تمارسه العرب، ذلكم هو الفخر بالبيان، وقوة اللسان، وجميل الشعر تحديدًا. وهم يفعلون ذلك طبعًا لا تكلفًا، وجبلة لا اكتسابًا. والسبب على ما يبدو أنهم لم يكونوا من الناقدين لأعمال غيرهم أو من المادحين، ولذا فإن لم ينطق صاحب العمل الأدبي بفضله وجماله، فلا غيره يفعل. وممّا عُرف عنه ذلك كعب بن زهير، فكان إذا أنشد شعرًا قال لنفسه: (أحسنت وجاوزت والله الإحسان)، فيُقال له: (أتحلف على شعرك)؟ فيقول: (نعم لأني أبصر به منكم). وكان الكميت إذا قال قصيدة صنع لها خطبة في الثناء عليها. ويقول عند إنشادها: (أي علم بين جنبي! وأي لسان بين فكي!). وقال الجاحظ: (لو لم يصف الطبيب مصالح دوائه للمعالجين ما وجد له طالب). وكتب ابن المقفع رسالة أعجبته جدًّا فسمّاها (اليتيمة) إفرادًا لها في المكانة، وتنزيهًا لها عن المثل حتى سكنت من النفوس موضع إرادته من تعظيمها، ولو لم يمنحها هذا الاسم فربما كانت كسائر رسائله. والنفوس المتحضرة الواعية تدرك أن حقيقة التفاخر إنما هو بما تقدم لمجتمعها من علم نافع، أو فن جامع، أو فكرة خاصة لم يسبق إليها أحد من قبل. ما الذي يجنيه المجتمع من تباهي فلان باسم، أو فخذ، أو قبيلة.. لا شيء سوى مزيد من حروب الكلمات، ومعارك التفاخر، وترهات التنابز بالألقاب، وربما ضرب وطعن وقتل ومكيدة. إنه الزبد الذي يذهب جفاء. وأمّا الكلمة الطيبة والإنجاز العلمي، والكتاب النافع، والاختراع الفريد، فهو ممّا يمكث في الأرض، يرويها بالخير والنماء والعطاء. إنها مبادئ التنافس الشريف التي تعتز به الأمم، وتتباهى بها الشعوب، ويفرح بها الصادقون النابهون المفكرون. [email protected]