من أهم ما يمكن أن تقدمه اللغة من خدمة للناطقِين بها أنها تعزز وحدتهم وتقوِّي الروابط بينهم وتغدو خازنة لتراثهم ورمزًا لهويتهم وحافظةً لتاريخهم وأمجادهم، ولذا رأينا كيف كانت الجزيرة العربية -قبل قيام المملكة العربية السعودية- أشلاء ممزقة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، فكانت تلك الأشلاء جُزرًا معزولة عن بعضها، وهذا بدوره خلق حالة من التباين والاغتراب في كثير من المشتركات، ومنها (اللغة العربية) التي تفتتتْ إلى لهجات جهوية غارقة في درك العامية، ثم ازدادت هوة التباين والاغتراب اللهجي حتى كادت الأمور تستدعي معاجمَ ومترجمِين لفك شفرة التباين والاغتراب بين لهجات تلك الأشلاء. ومع قيام المملكة وانتشار التعليم النظامي وتعزيز مقررات اللغة العربية، ومع ظهور وسائل الإعلام الرسمية واندماج شرائح المجتمع في مواقع التحصيل والعمل والإنتاج، رأينا كيف خفَّت حدة اللهجات العامية، وكيف تواطأ الناس على لغة هي أقرب للفصحى، وهي التي تسمى (اللغة البيضاء) التي يفهمها السامع أيًّا كانت جهته، بل أصبحت اللغة الفصحى ذات مكانة مرموقة لدى المُتلاغِين ومحل فخرهم واعتزازهم، وعلى إثر ذلك حُشرت اللهجات العامية في زاوية ضيقة خاصة في اللقاءات التي تجمع خليطًا متباينًا من جهات عدة، وهذا خلق حالة من التفاؤل بعودة اللغة الفصحى لمكانتها المرموقة. قبل شهر غرد سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله تجاوبًا مع طلب الدكتور عثمان الصيني المتضمن الاهتمام باللهجات، قائلاً: "قطع زملائي في وزارة الثقافة شوطًا في مشروع بحثي لحصر اللغات المهددة بالانقراض واللهجات المحلية، حمايةً للتراث اللغوي ودعمًا للتنوع في لهجاتنا المحلية". العجيب في الأمر هو حالة الاندفاع من قِبل البعض -متخصصِين وغير متخصصِين- على تغريدة الوزير؛ إذ يبدو أن هناك من فهم منها أن الوزارة مندفعة بقوة إلى (اللهجات العامية) إحياءً لها واحتفاءً بها، ولذا ربما رغب هؤلاء -في فورة اندفاعهم- من الجامعات أن تصرف اهتمامها للعاميات، وأن يُضمَّن التعليمُ اللهجاتِ العاميةَ، وأن يُمكن للعامية في منابر المؤسسات الثقافية، غير أن الذي يظهر لي هو أن مشروع الوزارة لدراسة اللهجات هدفه (حصر الألفاظ والمعاني التي يُظن أنها عامية وهي فصيحة). وعليه فمأمول من الوزارة أن تسلط مزيدًا من الضوء على أهداف مشروعها القادم عن اللهجات والتراث اللغوي؛ أهي لغاية تقصِّي اللهجات العامية وتعزيزها والأخذ بها تحدثًا وكتابة كما فهم البعض وتمنى؟ أم هي لفرز اللهجات وتهذيبها وربطها بأصولها الفصيحة وإضافتها لقاموس الفصحى حتى لا تندثر؟.. وهذه الأخيرة هي الغاية التي يسعى لها (مجمع اللغة الافتراضي) الذي يقوم عليه الدكتور عبدالرزاق الصاعدي ورفاقه، حينما اهتموا بالفوائت الظنية ذات الأصول الفصيحة ليضيفوها إلى المعجم اللغوي العربي. مشروع وزارة الثقافة عن اللهجات إن لم تُوضَّح أهدافه بالشكل الكافي فقد يغدو جسرًا لبلوغ غايات ينتظرها المحتفون بالعامية، وبالتالي تنصرف الجهود الأكاديمية والمؤسساتية لدراسة اللهجات العامية، وتكون هذه اللهجات منطلقًا لتقعيد القواعد النحوية والصرفية والتركيبية للغة العربية، ومسرحًا للاحتفاء بالأدب الشعبي دراسةً وتدريسًا. ثم ليُعلم أنَّ اللغة العربية الفصحى هي من أمتن روابط الوحدة الوطنية وأوثق عراها، وأن حفاظنا عليها هو تعزيز للوحدة الوطنية، وأن انصرافنا للهجات العامية والاشتغال بها يعني إحداث ثقب في جدار هذه الوحدة؛ وعلى هذا فحبذا أن تحدد الوزارة معالم هذا المشروع وتقننه وتضبطه، وتجعل القيِّمين عليه من المتخصصِين الحاذقِين من الأكاديميِّين وغيرهم الذين هدفهم استخراج جواهر الفصحى وتقييدها وضبطها وتنقيحها، وليس الاحتفاء بالعامية وفتح ثغرات في جدار الفصحى وزعزعة اللُّحمة وتمزيق اللغة، ولْيخففِ المفتونون باللهجات من هيامهم في مفازات (الكشكشة والقفقفة)؛ بحجة (التنوع والإثراء)، ولْيرضَوا ب"لسانٍ عربيٍّ مبينٍ"، ومن كان منهم يطمع في صرف الوزارة مشروعها للهجات العامية، فليستعد من اليوم لعِباراتٍ من محافظتِي (محافظة العُرضيات) على شاكلة: (آينا سِبْنا من سلافيكْ ابخطلانْ وامّصفَّقةْ ذَوَليهْ).