الأطلس اللغوي أُنْشِئ أساسا لتحقيق مقاصد سياسية، فهو ضرب من ضروب التخطيط اللغوي الذي يُراد منه معرفة التوزيع الاجتماعي في مناطق معينة ليُبنى عليه قرارات وخطط وبرامج سياسية وإدارية، مثل تقسيم إقليم معين إلى أكثر من دولة، أو توحيد عدة مناطق في دولة واحدة.. في برنامج الليوان (الحلقة الثامنة) طُرِح موضوع أطلس اللهجات في الجزيرة العربية، ودعا الضيف متحمسا إلى تحقيق هذا المشروع، قائلا إن أفضل رابطة تربط الشعوب العربية هي دراسة اللهجات! لأن هناك أرومة لغوية وقبلية تربط مناطق العرب خارج الجزيرة بداخلها، فلو اعتنينا بهذا الجانب قوّينا الرابطة اللغوية التي هي أهم من الكلام العام الجاف الذي نقرؤه الآن في الكتب، وهذا عمل لم يعمله أحد، ولو عملناه لكان شيئا كبيرا، هذا فحوى كلامه. وتوسّل الضيف إلى إقناع المذيع والمشاهد بالطعن في منهج اللغويين القدماء وفهْمِهم! فزعم أنهم حكموا بانحراف لغات العرب (اللهجات) عن الفصحى، والحق أنهم قرروا فصاحتها وأنها كلها حجة، وإن كانت أقل فصاحة من العامة المشتركة، كما قرر ذلك ابن جني في الخصائص في "باب اختلاف اللغات وكلها حجة" (2/10). وزعم الضيف أيضا أن العلماء تعرضوا لوصف ظواهر لهجية كالكَسْكسة والكَشْكشة والقُطْعَة وغيرها ولم يفهموها ("ما هم فاهمين السالفة" بتعبيره!)، بل كتبوها خطأ. ولو قيل لنا إن جماعة كبيرة من العلماء اتفقوا على الخطأ في سماع كلمة وفي كتابتها وفي تفسيرها وفي تقييمها لجاز لأجهل الناس أن يحكم على هؤلاء بأنهم ليسوا علماء بل هم قوم حمقى عابثون ولا علاقة لهم بالعلم أصلا، فكيف تُنسب هذه الحماقات إلى الأئمة الذين وضعوا علوم اللغة والعربية كالخليل وسيبويه ومَن قبلَهما وبعدَهما؟! وما ذكره الضيف هو الحقيق بالوصف الذي نسبه للعلماء، ففيه ردٌّ لوصْف سماعٍ قديم من ثقاتٍ دون مبرر معقول، وفيه أيضا خلطٌ بين مراحل التطور اللغوي، وفيه أيضا محاكمة مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة، وهذا مناقض لمنطق التطور، وما ذكره هو على أي حال ترديدٌ لترّهات اللسانيين المعاصرين من أمثال إبراهيم أنيس ورمضان عبدالتواب، وواضح أن الضيف حافظٌ للفصل الذي كتبه هذا الأخير عن اللهجات العربية في كتابه "فصول في فقه العربية"، ولا يزيد على ترديده في كل حديث عن اللهجات! على أنه كان في غنىً عن هذه المزالق كلها، فكان يمكنه عرض فكرته وذكر مبرراتها دون تسويغها بالطعن في العلماء والافتراء عليهم بما لم يقولوه! أما فكرة أطلس اللهجات في السعودية فلا بد أولًا من تحديد مقاصدها قبل تقييمها، فإن كان المقصد هو ما ذكره الضيف من أن دراسة اللهجات هي أفضل رابطة بين الشعوب العربية فهذا وهم، فإذا كان الإسلام مع العربية الفصحى -وهما أعظم الروابط- لم يحققا هذه الرابطة على الوجه الأمثل، فكيف تحققه اللهجات الحديثة وحدها؟! وإن كان المقصود خدمة الفصحى بتقريبها من الدارسين وعامة الناس عن طريق ربطها بلهجاتها العربية التي لا تخرج في جملتها عن الفصاحة، لأن كثيرا من تلك اللغات (اللهجات) التي وصفها العلماء قديما لا تزال مستعملة الآن على أفواه العرب في البوادي والحواضر، في الجزيرة العربية خصوصا وخارجها عموما؛ فهذا مقصد وجيه، ولكن الأطلس اللغوي ليس الوسيلة المناسبة -فضلا عن الأنسب- لتحقيقه، فالأطلس اللغوي أُنْشِئ أساسا لتحقيق مقاصد سياسية، فهو ضرب من ضروب التخطيط اللغوي الذي يُراد منه معرفة التوزيع الاجتماعي في مناطق معينة ليُبنى عليه قرارات وخطط وبرامج سياسية وإدارية، مثل تقسيم إقليم معين إلى أكثر من دولة، أو توحيد عدة مناطق في دولة واحدة، وتقسيم الدولة الواحدة إلى عدة مناطق أو إمارات ذات استقلال إداري إلى مستوى معين. كما قد تُوظف هذه الأطالس في مشروعات استعمارية، لأنها توفر معلومات في غاية الأهمية عن تركيب النسيج الثقافي والاجتماعي للمنطقة المستهدَفة، كما استعان الاستعمار مثلا في القرن الماضي بالمستشرق اللغوي الألماني برجشتراسر (ت 1932) لعمل أطلس لغوي لسورية وفلسطين قُبيل الحرب العالمية الأولى (قَدَّم العمل في 1914 تقريبا)، ليستعينوا به في تصميم التقسيم السياسي الأنسب لهذه الأقاليم. لكن المقصد المذكور (تقريب المسافة بين الفصحى والعامية) له وسائل كثيرة تتعلق بالتعليم والتربية والإعلام وغير ذلك، ولكن على مستوى التأليف فالأنسب هو وضع معجم للهجات العربية يكشف العلاقات بين الفصحى العامّة المشتركة واللهجات الخاصة الضيقة، فهذا هو الذي يحقق ما نتغيّاه من مقاصد لغوية كتفصيح العامية وتقريب الفصحى، وما نتغياه أيضا من مقاصد سياسية واجتماعية كتقوية الروابط الاجتماعية بين العرب. وليس غرضي هنا التحذير من فكرة الأطلس اللغوي، بل لا بد من دراسة الجدوى، والتأمل في مقاصد الفكرة، وتحديد المشكلات التي نريد علاجها، ومناسبة الوسيلة للغاية، وملاحظة الآثار السيئة المحتملة من تنفيذ الفكرة كإثارة النعرات القبلية والمناطقية، فالخرائط اللغوية ليست مجرد حدود لغوية بل تتضمن حدودا اجتماعية وثقافية، فلا بد أن يكون كل هذا في الحسبان حين التفكير في تنفيذ هذا المشروع.