تنهد عدة مرات دون أن يتوقف، ارتد مرارًا عن إفشاء ما يكنه من مشاعر سيالة، وأدرك أن التلميح ليس حلا مجديًا، أعلن استسلامه لنتوءات الزمن، ازدادت رغبته في الحديث معها هذا التبدل المفاجئ تمدد كالعشب الباهت في حدائق المدن المهملة، تأخر مطر السماء عليها ونست البلدية أن تنعشها برذاذها الصناعي، ومنذ آخر ضحكة لها وأوردته مهتكة، ظل لاجئًا إلى ذاكرته أسيرًا يتردد على أماكنها التي جمعته بها تقتاده أشواقه كسرداب. بدا عليه استغراب كبير منذ يوم فائت قضاه في السرير الأبيض عجز الطبيب عن تشخيصه، وقبل أن يغادر المستشفى فك أزار قميصه الأزرق ومد يده إلى جيبه الأيمن ليخرج هاتفه، وهو يشعر باستقرار بارد في مشاعره، وانخفاض لدرجة الحرارة، وصداع قد زال، وقد قرأ الطبيب في عينيه أرقًا طويلا. تبادل الحديث معها رغم إحساسه بغصة آتية توحي بفوهة مرتقبة مضت الدقائق سريعًا... تنحنح وهو يتأمل لينضح عليها حنينه الذي نفذ إلى قلبها كأعواد الثقاب، ساد الصمت وتهدج الحديث، وقد ترجحت في دهشة بين الشك واليقين ثم حاولت النفاذ بلباقة إلى ما وراء انكساراته الباهتة التي مرق منها وما نثره في مساحاته الضئيلة، لم يعجبها حديثه الفاتر وكأن شيئًا لم يحدث. عاد نداؤها لسبر أغواره محاولة اكتشاف الفجوة لفتح الدروب المسدودة، تدارك نفسه على مضض، وبات منكبًا على هاتفه وعينيه الناعستان يكاد يبتلعها السهاد، وخفت وهج المواجهة وبحركاتها المتراكمة نصبت له إقامة جبرية ترسل زفيرها الغائم بين فينية وأخرى في خبيئة نرجسية، تلكزه بهدوئها الحائر كإشارة ضوئية حتى تبقى ظلا لا يفارقه تنسل منه لتزهر بين شرايينه. لفلفت فزعها وبحثت عن ديباجة لتكسو بها نحت قلبه قبل أن تنجلي ندباته في دروب العمر، وأردفت منقبة عن أساس يضمد كنفها دون عويل، أغلقت نوافذها السوداء، وبات ينعي نبأ وحدته في وجوه المارة من نافذة سيارته خشية الاختناق.