كان يشعر أن الحياة باتت ضيقة، وأن الدنيا أصبحت في عينيه مجرد أبواب مغلقة. همست في أذنه تلك الخاطرة «ماذا لو أدركك الموت وأنت لم تزل تركض خلف ذلك الوهم المسمى بالنجاح». تنهد وهو يهم بالخروج من منزله، في صباح بدا دافئا وغريبا، دفع بجسده الناعس نحو شارع يزدحم كل صباح في مثل هذا الوقت بالأصوات والضحكات والشتائم. لم يلتفت إلى تلك المرأة العجوز التي أدركت أنه أسقط شيئا من جيبه بينما كان يتسلل بين الجموع مبتعدا إلى الجانب الآخر من الشارع. لكن ذلك بات جليا بعد تلك الملامح المفزوعة التي رآها زملاؤه في العمل، لم يدر بالا أن التشاؤم مفتاح سيئ ليوم طويل. كأنه كان نائما ثم أيقظته المحفظة المفقودة. ذهب إلى قسم الشرطة، مرت عليه ساعتان في انتظار حضور الشرطي المسؤول عن تسجيل المفقودات. وعندما غالبه الضجر، وثب عن مكانه ليخرج، لكن تدارك إلى سمعه صوت امرأة عجوز كانت تنتظر هي أيضا ضابط المفقودات. لوهلة كان يريد أن يسألها عما أضاعته، لكنه تراجع عن ذلك، خرج من المكان كي يعود إلى حيرة النهار دون بطاقة هوية أو نقود. وما أن وصل إلى عمله حتى استقبلته كلمات المدير التي أحرقت بقية معنوياته. «هيه.. لا يهم.. لن تقف عندك» قالها في وجه الرجل ولملم نفسه إلى كومة الملفات التي كانت تنتظره فوق المكتب. فجأة دق الهاتف. في الطرف الآخر كان يسترسل الصوت الجهور ببضع كلمات «أنت فلان.. هل فقدت محفظة هذا الصباح.. تفضل لدينا.. لتستلم حاجتك» . وما لبث أن أغلق الخط حتى بدأت زقزقات العصافير واضحة، وقد امتزجت برقصات قلبه، زاد الأمر من دهشته.. حين اكتشف أن العجوز التي كانت تنتظر معه في ذلك القسم كانت تحمل محفظته، لكنه لم يدر ما يفعل حين أبلغه الشرطي أن المرأة التي تركت محفظته في الصباح على مكتب الشرطي توفيت قبل لحظات.. تسربت إلى أطرافه تلك الرعشة، كأن عقله الباطن قد اختطف ذلك المعنى «الحياة لا تنتظر، وكل يوم فرصة لتستعيد ما فقدته» . عاد إلى عمله بابتسامة لم يترجمها وجه المدير الذي استغرب مصافحته. انتهى النهار الطويل وهو لايزال منكبا على تلك الملفات وفي وجهه ذلك الارتياح العميق الخالي من الكآبة والضجر. منى مرسل