لصحيفة "الحياة" في وجداننا بصمات كثيرة، إلا أنني أخشى أنها في موقفها مما أطلق عليه قضية "وليمة أعشاب البحر" والتي كنت قد فجرتها في صحيفة "الشعب" المصرية قد تكون ابتلعت، ككثير من المثقفين العرب، ذلك الطعم الذي ألقاه في الجو الملبد بالغيوم أدعياء الثقافة. ثمة حقيقة مرة لا أدري إن كنا سنتفق عليها أم سنختلف، وهي أن معظم من يتصدرون الساحة الثقافية في العالم العربي ليسوا المثقفين الحقيقيين، بل هم البدائل الحكومية للمثقفين الحقيقيين، والذين يلقى بهم في غياهب الصمت والنسيان، وأحياناً السجون. لم نكن ضد الإبداع كما ادعوا، على العكس كنا نحن المدافعين الحقيقيين عن الإبداع. وصحيفتنا جميعاً كانت أكثر ميلاً الى وجهة النظر الأخرى، وأرجو أن تتسع لطرح القضية بأبعادها الحقيقية ... أعتقد أن من حق القراء أن يعرفوا الجانب الآخر للحقيقة... اشهدوا يا ناس.. اشهدوا يا من كنتم خير أمة أخرجت للناس.. بعدما رأيت، لم يعد التساؤل عندي كيف انهزمنا هذه الهزائم المروعة - والله - الساحقة المهينة، بل أضحى كيف استطعنا أن نستمر على سطح البسيطة على رغم طريقتنا في التفكير، وفي التعبير، وفي الحوار، وفي الغيبوبة..!! لم يعد التساؤل كيف انهزمنا، بل كيف لم ننقرض؟!.. لقد أسفر الزلزال الذي حدث بسبب فضح توجهات وزارة الثقافة في مصر عن توابع كثيرة أهمها افتقاد شبه كلي لمعايير الصدق والموضوعية في معظم الصحافة المصرية، التي تقدمت عليها الصحافة العربية الى حد بعيد، وإن لم تسلم كلياً. لم يناقش معظم من ناقش القضية ذاتها، بل أثاروا عواصف هائلة من الغبار والأكاذيب كي يتجنبوا مناقشة صلب القضية.. حاولوا تصويرنا كما لو كنا ضد الابداع، ولم يكن الأمر كذلك أبداً. فما يدافعون عنه ليس إبداعاً بل جريمة مستمرة تتهدد العالم الإسلامي كله تحت رايات مختلفة. ليس إبداعاً إلا بالدرجة نفسها التي نعد بها السلام الاميركي - الاسرائيلي سلاماً وليس استسلاماً.. في الإطار التنويري نفسه ولا أقول التزويري لم يكف الأستاذ جمال الغيطاني عن تساؤل ما انفك يردده، وهو: لماذا كتبت في مقالي: "من يبايعني على الموت"، العناوين الشخصية، وأرقام الهواتف الشخصية للمسؤولين عن نشر الرواية الكافرة، بل وبلغ به الانفعال أن يزفر في وجه لم أعهده منه منذ تجلياته: لماذا كتبت عنوان إبراهيم أصلان ورقم هاتفه؟!.. والإجابة بسيطة جداً، وهو أن ذلك كذب، فلم أنشر عنوان ولا هاتف أصلان ولا أي واحد آخر .... النمط المغلوط نفسه في القراءة اتبعه الدكتور رفعت السعيد على قناة "الجزيرة" الفضائية عندما راح يصيح انني كتبت ان نصف الصحافيين المصريين عملاء لأجهزة المباحث في الداخل والنصف الآخر عملاء للخارج، كان يلوح بالصحيفة واثقاً أن المشاهدين لن يستطيعوا قراءتها - المتستر خلف حصانته - ومراهناً على ضعف الذاكرة وقصور المتابعة. ولقد أغفل الدكتور سطراً في بداية الفقرة أنسب فيه القول الى الصحافي اسامة عرابي. كما أغفل في النهاية سطراً آخر أقول فيه انني شخصياً لا أصدق هذا الكلام! وكان يصيح مكرراً عنوان فصل في روايتي "بروتوكولات حكماء العرب" التي نشرت معظم فصولها في صحيفة "الشعب"، وعنوان الفصل: "فتنة الوزير الشاذ". ولم أكن أقصد واحداً ممن تخيلهم. لكنه كان غاضباً جداً، على رغم أنه كان يعلق على رواية، فلم يتذكر حرية الابداع، ولا دفاعه عن الاجتراء على الذات الإلهية والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم ما دامت تأتي في رواية!! فكأنما الاجتراء على المقدسات إبداع لكن التعرض للوزراء فتنة.. على المنوال نفسه كان الدكتور جابر عصفور يتحدث في قناة "الأوربت". تهدج صوته وهو يتلو أربع فقرات من الرواية الملعونة. بلغ به التأثر مبلغاً عظيماً حتى ظننته سينفجر مجهشاً في البكاء، وهو يصيح أن الرواية ايمانية. وكان المحاور الدكتور محمد سليم العوا، والذي أقرأ له منذ زمن لكنني لم أتخيل أبداً أن يصل ذكاؤه وإلماحه الى حد أن يتعقب الدكتور جابر عصفور الذي تعمد أو لعل الأمر كان سهواً من فرط انفعاله أن يتجنب ذكر أرقام الصفحات من رواية تقارب صفحاتها السبعمئة، وفي أقل من دقيقتين كان الدكتور محمد سليم العوا قد اقتنص النصوص الأربعة المتناثرة عبر الرواية كلها والتي استشهد بها الدكتور جابر وإذا بالدكتور العوا يكشف للمستمعين في مفاجأة مذهلة أن الدكتور جابر قد أغفل سطراً في بداية كل فقرة أو نهايتها، سطراً يحول الفقرة كلها الى سخرية واستهزاء بالدين. ساعتها امتلأت بالخشية والعطف على الدكتور جابر عصفور، وظننت أنه سيسقط فاقد الوعي من فرط الخجل التفاصيل أوردها الدكتور العوا في مقال له في مجلة الكتب "وجهات نظر". تصورت الأستاذ الكبير جمال الغيطاني بشكله المتجهم شديد الجدية على شاشة التلفزيون يصرخ ويتجلى فينا كي نصحو من جهلنا ونتذوق معه هذا الشعر: لماذا تغير مجرى الكلام؟ / لأني سليل بلال.. / تلقيت وحياً فرددت اني ارتددت.. / وأذنت في الناس حتى يكونوا العصاة... تصورت الأستاذ الكبير صلاح عيسى في ندوة الدكتور طارق البشري والدكتور محمد عمارة في برنامج حمدي قنديل، تصورته يصيح فينا بصوته الجهوري: وأنا مرح دون مناسبة.. / أصرخ في البرية يا قوم قد زهق الحق وجاء الباطل.. / إن الباطل كان فعولا... ثم تبلغ به تباريح الجرح مداها وهو يتلوى إذ يتلو كي يفحمنا: رأى طائرين على نهد عاشقة يسفدان، رأى كيف تخرج من سرة امرأة جنتان. رأى امرأة "وهي تدعك نهدين مندعلين بماء الذكورة"... يا إلهي.. يا إلهي.. هؤلاء الناس الذين يعتبرون هذا الفحش الداعر إبداعاً هم الذين انتفضت مشاعرهم إزاء قسوة كلماتي، وبدت عليهم معالم خفر العذارى وهم يعيرونني: هذا الذي قال الكافر ابن الكافر.. أصرخ مع بيرم التونسي: "الوزة من قبل المقال مدبوحة!!". والله لولا الخطأ الديني فيها ما شعرت بأي ذنب.. وقد تبدو هذه الكلمات بعيداً عن الإطار الذي قيلت فيه تجاوزاً كبيراً، لكنها في إطار الرد على كلمات سافلة تطاولت على الله والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم تعد ردّ فعل طبيعياً، رد فعل أرجو الله أن يغفره لي، كما أن القانون نفسه يضعه في إطار رد فعل مباح، وعلى مستوى الناس، الذين هم مني وأنا منهم، فلعلي أفخر بما قلت فخر من قتل عدواً بثأر.. هل كان الأمر مجرد شذوذ مريض كما قال فاروق جويدة؟! أم أن الكارثة أبعد وليس ذلك إلا جزءاً من المؤامرة الكبرى على أمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.. أذكركم يا قراء بأضلاع المؤامرة: الاستشراق، والتبشير والاستعمار، ثم التعليم والإعلام والثقافة. أذكركم يا قرّاء بأن ميليشيات الثقافة التي تطالب اليوم بانتهاك كل المحرمات، والجرأة على كل المقدسات، كانت حتى عقود قليلة تواجه مستنكرة بمنتهى الاشمئزاز من يخالف تعليمات صنميها ماركس ولينين اللذين حرما الموسيقى الكلاسيكية وتمثال فينوس، باعتبارهما رموزاً امبريالية تدنس روح الشيوعي المخلص! تذكروا يا قرّاء أن اللغة ليست مجرد وعاء ثقافة الأمة، بل هي وهج وجدانها، وبصمات تميزها وهويتها وتجاربها، فوق أنها مستودع القرآن الكريم والحديث الشريف وتراث الأمة، وأنهم في الغرب، عبر وكلائهم...، قد حرصوا دائماً على محاولة تدميرها كي يعزلونا عن ماضينا المجيد. وما أقوله ليس مجرد استنتاج شخصي، بل تعج به كتب لا تنشرها وزارة الثقافة، ولا تذكرها وسائل الإعلام.. يأتي في هذا الإطار محاولات الاستعمار الدؤوبة لنشر العامية، وكتابة اللغة بحروف لاتينية و.. و.. و.. ولقد نجحوا في بقاع كثيرة من عالمنا الاسلامي.. وتذكروا يا قراء أنه عند ترجمة الانجيل فقد رفض المستعمر ان يقوم على ترجمته أدباء مسيحيون كبار خشية أن تساعد ترجمته الفصيحة على تدعيم اللغة العربية.. إن عزل الأمة عن تيار لغتها الحقيقية يعزلها عن ماضيها وعن دينها المتمثل في القرآن والحديث النبوي الشريف.. فهل يتصور منكم أحد يا قرّاء أن من يعتبر هذا الكلام الفاحش البذيء - الذي أوردنا منه مجرد نماذج - يستطيع أن يقرأ بعدها القرآن أو الحديث أو التراث.. ومرة أخرى ليكتبوا كما شاؤوا، وليصل بهم جنونهم وشذوذهم الى كتابة قصائد عن عورة الأم، وعن وصف تفصيلي للتبول والتبرز أشفقت عليكم يا قرّاء من إيراد تلك النماذج البشعة، ليكتبوا ما شاؤوا، ولينشروا ما شاؤوا، لكن ليس عن طريق وزارة الثقافة، إحدى مؤسسات الدولة.. * كاتب مصري.