نعرف أن صاحب عصا السبق المسرحي، هو اللبناني مارون النقاش الذي اقتبس البخيل لموليير في وقت مبكر، في 1848.. وأحدث هذا التبني هزة كبيرة في إدراج الأشكال التي لم تكن معروفة عربيًا، في شكلها الكلاسيكي المعهود.. لكن حدث في التاريخ ما هز هذه الريادة باكتشاف نصوص جديدة كتبت قبله.. ومع ذلك بقي تاريخ الأجناس العربي على ما كان عليه وكأن شيئا لم يحدث.. مع العلم أن سؤال الريادة يظل مرتبطًا بامتياز بالقابلية على الانفتاح على الجديد وضمه، بلا عقد ولا حتى أنانية البلد، لأن سياق المنتَج في النهاية، هو العالم العربي ولغته. من هنا، المسؤولية كبيرة، لأن ما يتم إدراجه ضمن تاريخ الأدب لاحقًا، يحتاج إلى قوة إقناعية كبيرة لأنه سيهز يقينيات كبيرة، وتاريخ الأدب هو اللا يقين بامتياز، ظروف العمل تتغير، والوصول إلى المخطوطات أو النصوص النادرة أصبح أسهل اليوم على ما كان عليه، في السنوات والقرون السابقة.. هناك مشكلة كبرى تنشأ داخل الجدل بين الجديد والقديم، وهي هيمنة الوطنيات العربية غير المبررة والتي تصطدم بالموضوعية، تقلّل منها وتعطل فاعليتها للأسف.. مقتل البحث في الريادة أو الريادات، هو تثبيت تاريخ الأدب في نقطة مرجعية محددة والتوقف عندها.. إن العمل على الريادة يحتاج حتمًا إلى إعادة النظر في الثوابت المخطئة.. المعضلة الكبيرة هي أنه، لتثبيت الجديد، يجب أن يتفق الدرس الأكاديمي عليه، ويدرج المكتشفات في أبحاثه والدفاع عنها بعقل وتبصر، حتى يتم تقويم النقائص.. على الرغم من اكتشاف نص مسرحية دانينوس، لا يزال الدرس الأكاديمي في الجامعات والمخابر الأدبية، محكومًا بالانغلاق في تاريخ الأدب وكأن ما عثر عليه السلف هو النهائي، وكأنه أيضا لا قيمة للزمن.. يفضي بنا هذا إلى أزمة حقيقية لم نبحثها كما يمليه العقل والتبصر وتاريخ الأدب بالمقابل، تحلّ محل السجالية العلمية، والمناظرات الثقافية العالية، سلسلة من التهم الاختزالية، التي لا تخدم الأدب مطلقًا ولا المسرح.. كأن يقول بعضهم إن دانينوس يهودي (جزائري)، وهو ما حدث بالفعل في المناظرة التي نظمتها هيئة المسرح العربي وكان لي شرف إدارتها، وكأن اليهودية مقياس ثقافي ونقدي وليست دينًا كبقية الأديان، لا اعتبار له في نقاش يتوخى العلمية والبحث عن الحقيقة الجديدة؟ السؤال الكبير في موضوع الريادة في المسرح العربي هو، هل يتعلق الأمر بتوطين جنس المسرح عربيًا، وفي هذه الحالة يكون جهد مارون النقاش كبيرًا واستثنائيًا لأنه جاء بجنس أدبي من مكان مختلف، وزرعه في رحم التربة الثقافية العربية، حتى أصبح حقيقة ليس فقط اقتباسًا ونصًّا، ولكن أيضًا تمثيلا.. تصبح مسرحية البخيل المقتبسة إنجازًا مسرحيًا كبيرًا، ولكنها ليست ريادة مسرحية بالمعنى الدقيق للكلمة، أي كتابة أول نص مسرحي عربي، لأن جهد مارون النقاش أنبنى على الاقتباس المختصر للبخيل.. في وقت أن مسرحية البخيل تنتمي إلى المسرح الفرنسي تاريخيًا؟ يجب أن نعيد ترتيب السؤال بشكل مستقيم وجيد: هل تتعلق الريادة في كتابة أول نص مسرحي، أم في أول نص وطّن الجنس وسمح للظاهرة المسرحية نصًا وتمثيلا بالانتشار؟ سؤال بسيط لكنه معقد يحتاج فقط إلى تجاوز الوطنيات المريضة وضيق الأفق.. لهذا كثيرًا ما عوض النقاش العلمي الجدي، الاقتتال على سجال الريادة الذي لا يفضي إلى أي شيء.. أعتقد أن تاريخنا الثقافي يعج بثوابت غير دقيقة، تحتاج اليوم إلى إعادة قراءة جادة وحقيقية.. ما يزال الدرس النقدي العربي يلح تثبيت تاريخ الأجناس فيما افترضه حقيقة مطلقة قبل عشرات السنين.. ثوابت عقيمة لا تفضي إلا إلى المزيد من تثبيت المعرفة وتجميدها، وإفراغها من ديناميكيتها. في المجال الروائي مثلا، ما يزال ما افترضه الأستاذ الفاضل عبدالمحسن طه بدر، على أساس أن رواية زينب لهيكل هي أول رواية عربية، بينما أثبتت الأبحاث الأكاديمية الجادة في مصر، وخارجها، أن رواية زينب فواز (1846-1914): حسن العواقب، هي أول رواية.. فقد صدرت في 1899، أي قبل رواية زينب لحسين هيكل، بخمس عشرة سنة.. وهو ما أكدته الناقدة السورية الدكتورة بثينة شعبان قبل سبع عشرة سنة، في كتابها: مئة عام من الرواية النسائية العربية (دار الآداب 1999). على الرغم من الاتفاق النقدي عمومًا، لم تثبت هذه الحقيقة العلمية لا في الكتب المدرسية ولا في الأبحاث الأدبية المختصة والأكاديمية.