لا أميل الى التفسير القائل بأن الفقر كان هو الدافع الأساسي لتوهج المواهب الخلاقة، ونشوء الفكر الجمالي ونبوغ أبناء بقعة من بقاع مصر كالمنوفية! أفهم أن يكون الفقر دافعاً للسعى نحو الوظيفة، ومن ثم تقلد المناصب الحكومية العليا من الضابط الصغير الى رئيس الجمهورية، ومن مهندس ناشئ إلى وزير النقل، ومن شرطي واعٍ الى وزير الداخلية. لكننا نتحدث عن العبقريات الفكرية، والطاقات الشعرية والأدبية، والأصوات القرآنية، ومن ثم فليس من المعقول أن نقول إن الفقر يجعل المثقف عبقرياً، وإنه يجعل الشاعر مبدعاً، والصوت شجياً جميلاً. في ظني أن المسالة ترتبط بالحس الجمالي منذ قدماء المصريين حيث انفعل إنسان وادي النيل بجريان النهر كما انفعل بشروق الشمس وغروبها المتعاقب ومن ثم تولدت لديه تصورات شكلت شخصيته. وكنت في مقال سابق قد أشرت الى أن العامل المشترك في معظم المعارك والمشاكسات الأدبية، كان مفكراً أو روائياً أو شاعراً من المنوفية، أفقر محافظات مصر، ومن ذلك.. التحدي الذي دخل فيه الشاعر محمد عفيفي مطر ضد أستاذه أمين الخولي، والمعركة الضارية التي خاضها الدكتور زكي مبارك ضد أحمد أمين ثم ضد طه حسين، ناهيك عن معركة عبد الرحمن الشرقاوي مع الشيخ محمد الغزالي. وكنت أتصور أن قرب مركز أشمون من القاهرة، قد يكون أحد عوامل تفتح الإبداع من الجهة القبلية للمنوفية، قبل أن أكتشف أن الجهة البحرية من نفس المحافظة أهدت لمصر الأديب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني الذي تربي في «كفر مازن» التابعة لمركز شبين الكوم. ومن الجميل في هذا الصدد أن قرية «دنشواي» بمركز الشهداء في المنوفية والتي أشعلت شرارة الكفاح ضد المستعمر البريطاني هي التي جمعت المازني بكل من الأديب العملاق عباس محمود العقاد، والشاعر الفذ عبد الرحمن شكري. ولما كان شكري القادم من إنجلترا يحمل في جعبته الكثير من المعارف الأدبية والثقافية الإنجليزية التي سكبها في قلب وعقل صديقيه ظهر كتاب «الديوان في الأدب والنقد» بقلم المازني والعقاد ثم يشكل الفرسان الثلاثة «مدرسة الديوان». مع ذلك، لم تلبث عرى الصداقة بين شكري والمازني أن تنفرط ذلك عندما كتب شكري عام 1917، في مقدمة ديوانه الشعري الخامس منتقداً مسلك المازني في الأخذ من الشعراء الغربيين، وكان من اللافت اصطفاف العقاد مع المازني ومناصرته في هجوم المازني على عبد الرحمن شكري. هذا عن الفكر الذي فاح مسكاً والشعر الذي فاح طيباً من الجهة البحرية للمنوفية، والذي لا يمكن القول بأن الفقر هو السبب فيهما! فماذا عن الأصوات الملائكية التي قدمتها المنوفية في التلاوة القرآنية؟!. قريباً من مركز شبين الكوم حين تربي المازني، ولد القارئ الشيخ محمود علي البنا أشهر قراء القرآن الكريم في العالم الإسلامي في قرية شبرا باص مركز شبين الكوم،، وتلقى القراءات على يد الإمام إبراهيم بن سلام المالكي. فلما حضر إلى القاهرة عام 1945، بدأ صيته، واختير قارئاً لجمعية الشبان المسلمين عام 1947، وكان يفتتح كل الاحتفالات التي تقيمها الجمعية وفي عام 1948م استمع إليه علي ماهر باشا، والأمير عبد الكريم الخطابي، فطلبوا منه الالتحاق بالإذاعة المصرية، وقرأ على الهواء سورة هود، وصار أشهر أعلام القراء في مصر. فاذا سلكت معي طريق شبين الكوم - الباجور - أشمون، ستتوقف يقيناً عند قرية صراوة حيث ولد الشيخ شعبان عبد العزيز الصياد، صاحب الصوت الملائكي الشجي، خريج كتاب الشيخة زينب، الذي زرته كثيراً وتعرفت على صاحبته وتناولت في منزلها طعام الغداء بصحبة المذيعة الكبيرة هند أبو السعود والمخرجة الشهيرة عائشة محمد علي. لقد أتم الشيخ الصياد حفظ القرآن الكريم كاملاً وهو فى السابعة من عمره، ثم أكمل الشيخ دراسته بالمعهد الدينى بمدينة منوف قبل أن يلتحق بجامعة الأزهر. كان الشيخ الصياد يتأهب لامتحان فى (أصول الدين) ويراجع مذاكرته في الجامع الأزهر فغلبه النوم، حتى الفجر عندما دخل القارئ العالمي الشيخ مصطفى إسماعيل فوجده نائماً وفى يده كتابه، فقال لمن معه: تمعنوا فى هذا الشاب النائم أمامكم فإن له مستقبلاً عظيماً فى دنيا تلاوة القرآن الكريم.. وقد كان. إنها البيئة الابداعية والصلة الجمالية التي تتم بين المبدع وبين المتلقي حيث تتكون المساحة الإبداعية وحيث يتقيد المبدع داخلها ويكون مأسوراً لديها.. وما أجمله من أسر وما أجملها مصر.