يُشكِّل الشاعر السعودي جاسم الصحيِّح علامة فارقة في مسيرة القصيدة العربية، فبعد أن كادت الذائقة العربية تتحوَّل بالكلية عن القصيدة العمودية بفعل جمودها، وبفعل النفخ المستمر في قصيدة النثر منذ ما يزيد على نصف قرن يأتي الصحيّح ليُشكِّل مدرسة إحياء جديدة تنطلق من الجذور وتُحلِّق في آفاق الإبداع، فيُعيد كتابة تاريخ القصيدة العمودية من جديد، ويُعيد لها وهجها وبهاءها. ومع أن الصحيِّح اسم بارز على خارطة القصيدة العمودية، إلا أنه لم يقف موقف المعارض للأشكال الأخرى، إذ يقول بحسب ميدل إيست أون لاين: «أنا منفتح على كلِّ الأشكال الشعرية حتى قصيدة النثر التي يُعارضها الكثير.. ولو كُنتُ واثقًا من نفسي أنني سوف أكتب قصيدة نثرية جميلة لمَا تردَّدتُ في كتابتها»، ويُؤكِّد على أن «حضور القصيدة العمودية في كلِّ البلدان العربية ومنها المملكة العربية السعودية حضورٌ كثيف، خصوصًا في العقد الأخير، بعد أن هدأت معركة حرب الأشكال الشعرية». يحتاج الوقوف على مفاتن التجربة الشعرية عند الصحيِّح لمجلدات، وليست لديَّ القدرة على الإحاطة بها، ولستُ في مقام التقديم له بوصفهِ شاعرًا مختلفًا ذا تجربة شعرية فريدة أعادت للقصيدة العمودية مكانتها السامقة في قالب لا يركن لهيمنة الوزن وسُلطة القافية على حساب الصورة الشعرية المجنحة في أُفق الخيال والجمال المنحوتة من عوالم الوعي واللاوعي؛ فالصحيِّح بحسب الشاعرة اعتدال ذكر الله: «استطاع وبذكاءٍ فطريٍّ نادر أن يُعيدَ للشِّعر العربي الفصيح جمالياته، وللقصيدة الخليلية الكلاسيكية هيبتها بعد أن ضاعت في ضوضائية النُّثَّار ومُدَّعي التَّمدُّن النَّتاجيِّ القاتم». كثيرة هي الشهادات من المؤسسات والشعراء والنقاد التي تطوق جيد الصحيِّح بعقودِ الريادة والإبداع والتفرُّد، وكثيرة هي الجوائز والأوسمة التي حصَّلها في محافل الشعر ومهرجاناته محليًّا وعربيًّا، آخرها فوزه المستحق بجائزة شاعر عكاظ الدولية للشعر الفصيح في دورتها الثانية عشرة، ويكفي أن نعلم أنه (حاول) خمس مرات لنيلها حتى حصَّلها، ولم يكتفِ بمحاولة واحدة ثم تأخذه العزّة بالإثم ، ولا عجب في ذلك حينما نعلم أنه ذو خُلُق رفيع، حتى لتظن أنك أمام شاعر مغمور ليس له من الشعر إلا مجرد النظم. الأمر اللافت للنظر الجدير بالاهتمام في تجربة الصحيِّح الشعرية، ويغفل عنه الكثير، هو أن العادة جرت أنَّ أي شخص (شاعر، مُفكِّر، روائي، ناقد..) حينما يبرز -لسببٍ أو لآخر- ويصبح له حضوره، تجده يصنع لنفسه خصومًا، ويفتح معهم جبهات للنزاع والصدام، مُوهِمًا الأتباع أنه موهبة فريدة يتربَّص بها الخصوم ليئدوها -بزعمه- من منطلقات أيديولوجية أو كيدية، إلا أن الصحيِّح خالف ذلك كله حين انصرف للاشتغال على أدواته وتطوير ملكاته الشعرية، فكان مختلِفًا عن غيره، وهو الذي كان بإمكانه أن يصنع له خصومًا، خصوصًا وهو ذو بصمة فريدة في خارطة القصيدة العربية الأصيلة، وله معجبوه ومُؤيّدوه، وهو بهذا يُثبت وَهْمِية أغلب تلك النزاعات والصدامات التي جاء بعضها مصطنَعًا من أجل كسب المزيد من الأتباع وحيازة المزيد من الأضواء. مبارك للوطن والذائقة الشعرية هذه القامة الشعرية، ومبارك للوعي هذه الشخصية التي لم تفتعل النزاعات والصدامات والعنتريات، ولم تشتغل بتحشيد الأتباع على حساب الاعتناء بالإبداع.. ولذا كانت شخصيةً مختلفةً.