يبدو أن حُب البقاء في عزلة اجتماعية «اختيارية» مرتبط بارتفاع مستوى الذكاء والعبقرية لدى الأشخاص الذين لا يشعرون بالارتياح النفسي مع تعدد الصداقات واختلاطهم مع الناس، ويختارون تقليص ارتباطاتهم الاجتماعية، فمن خلال دراسة نُشِرت في المجلة البريطانية لأمراض النفس (عام 2016) تبيّن أن الذين يتمتعون بصداقاتٍ أقل، هم في الحقيقة أكثر سعادةً وارتياحاً، ويمتلكون مُعدّلات ذكاءٍ أكثر من غيرهم. وبحسْب فِهمي، يبدو أن العيش في مُجتمعات مكتظّة بالسكّان، وارتباط الشخص بمجموعة كبيرةٍ من الناس في مُحيطه بشكلٍ يومي، يؤدّي إلى تشتت انتباهه واهتماماته، ويرفع من حِدّة توتّره وقلقه الاجتماعي، ويزيد من شعوره بالضيق، ويختصر كثيراً من أوقاته التي يقضيها وحيداً في التأمّل والقراءة والتدبّر، كما أن التعامل مع دائرة أضيق من الأصدقاء والتواصل معهم حول اهتمامات مُشتركة وبمستويات مُتقاربة من الذكاء الاجتماعي، يزيد من سعادة الشخص وارتياحه النفسي. من المُلاحظات الداعمة لما تقدّم، أن سُكّان القُرى والأرياف -بشكل عام- أكثر سعادةً من سُكّان المُدن الصغيرة، وهم بدورهم أكثر سعادةً من سُكّان المُدن الكبرى المركزية المُكتظة، مما يُكرّس مفهوم «نظرية سافانا» للسعادة، التي تشير إلى أن الإنسان يميلُ بفطرته إلى الحياة البِدائية التي تمتّع بها أسلافنا، حيث الهدوء وقلة الاختلاط بعيداً عن الصخب. ترى الكاتبة والباحثة «كارول جراهام»، أن الأشخاص ذوي مستويات ذكاءٍ مُرتفعة ينسجمون مع أنفسهم ولا يعتمدون في سعادتهم كثيراً على الآخرين، بل يتطلّعون فحسب إلى التواصل الوثيق بين فترة وأخرى، وأن العباقرة يُفضّلون الوِحدة. الجدير بالذكر أن الدكتور «علي الوردي» رحمه الله، عالم الاجتماع المعروف، أشار إلى هذا المعنى منذ سنوات عديدة في قوله: « كلّما كان الإنسانُ أكثر اجتماعيةً، كان أقلّ عبقريةً وأكثر ابتذالاً». في رأيي أن إشارات قوية تؤيد هذا المفهوم الاجتماعي، وتفسّر حرص كثيرٍ من المُبدعين وأصحاب الفكر على التأمّل والقراءة والكتابة والعُزلة وتَجنّبهم الحياة الصاخبة، واقتصار تعاملاتهم على عددٍ محدودٍ جداً من الأصدقاء، وتُجنّبهم ضغوطات الارتباطات الاجتماعية غير المُجدية ... يقول الدكتور «مصطفى محمود» رحمه الله: «الإنسان السّوي في حاجة دائماً إلى لحظات انفرادٍ مع نفسه .. مع فِكْره .. وهي لحظات عزيزة لديه.. لا يجب أن يقتحمَها عليه أحد».