من الموضوعات محلّ النقاش واختلاف وجهات النظر، عُزلة الشخص لنفسه عن التعامل مع الآخرين، ومدى تأثّره بهذا السلوك بشكل إيجابي أو سلْبي، وأهمية العُزلة الاجتماعية النفسية ودلالاتها السلوكية، والفرق بين العزلة والوحدة. لن أتناول الموضوع بتفصيلاتٍ يُمكن الاطلاع عليها بسؤال «الشيخ جوجل»! إلا أنني رغبت في الكتابة عنه لما لمَسته من اختلاط المفاهيم لدى بعضهم، وودت توضيح الفرق بين العُزلة والوحدة، فالعُزلة المقصودة هي سلوكٌ يختار بموجبه أحدُهم أن يتجنّب التواصل مع الآخرين في مُحيط مُجتمعه قدْر الإمكان، ويلجأ بشكلٍ تلقائي اختياري إلى الابتعاد مؤقّتا أو بشكلٍ متكرر، عن التعامل مع البشَر حولَه إلا في أضيق الحدود وعند الضرورة، واللجوء إلى «صندوقه الفارغ»، الذي يشعر فيه بنوعٍ من الصّفاء الذهني والارتياح النفسي، كي يُمارس تأمّلاته وهواياته وحرّيته الفكرية وسلوكيّاته الشخصية ويُرضي رغَباته النفسية، بعيدًا عن تطفّلات البشر وتدخّلاتهم ولغَطهم وحتى أصواتهم وصخَبهم. وهنا يأتي الفرقُ الجليّ بين العُزلة والشعور بالوحدة، فالوحدة قسْرية تتميّز بشعورٍ مؤلم مرير، وقد تكون مَرضيّة نتيجة عدم القدرة على التفاعل الطبيعي مع المُجتمع، وترتبط في كثير من الحالات باضطرابات شخصية ونفسية. تأتي العُزلة الاختيارية لتمنح الإنسان حقّه في الاختلاء بنفسه والحديث معها، وأخذ وقتٍ مستقطعٍ من الارتباطات الاجتماعية لقضاء وقتٍ نوعي في «مجال الراحة» والحرية الشخصية، التي يحتاجها كثير من الناس الأصحّاء، والتنعّم بخصوصيته الفردية في مساحة حسيّة وفكرية يشعر فيها بأمانٍ وهدوءٍ نسبيين، واستقرارٍ نفسي وتحسّن في المزاج، بعيدٍ عن التوتر والقلق نتيجة الإلحاحات الاجتماعية والمسؤوليات الوظيفية. من المهم مُلاحظة أن كثيرًا من مُمارسي سلوك العُزلة المُجتمعية، لا يعانون من اضطرابات السلوك الاجتماعي أو ضعف قدْراتهم على التعامل السوي مع مختلف فئات الناس، فمعظمهم يمتلكون مهاراتٍ اجتماعية جيدة، لكنهم متأثرون نفسيًا من السّلوكيات السّلبية والأحداث غير المنطقية والممارسات الاجتماعية الشاذة والاختلالات الفكرية المُنتشرة من حولهم، فوجدوا في العزلة تطييبا لخواطرهم، وشحذًا لهمّتهم وقدراتهم ودعمًا لإبداعاتهم وابتكاراتهم، وتجنبًا لمزيد من الأذى وخيبات الأمل نتيجة تعاملهم مع أصناف البشر، دون ضررٍ ولا ضرار. وأختم بقولٍ يُنسب لأستاذ علم الاجتماع الدكتور علي الوردي رحمه الله: «كلّما كان الإنسان أكثر اجتماعيةً، كان أقلّ عبقرية وأكثر ابتذالًا».