** استعجبتُ من النفوس التي تحشر أنوفها في دهاليز حياتنا.. لماذا يُتعبون أنفسهم بمراقبتنا، ويُشوّهون هذا الأنف بزجّه في شؤوننا؟ كيف يستمتعون! وجدتُ أمير الشعراء أحمد شوقي، يقول مستعجبًا هو الآخر: ما أَوْلَع النّاس بالنّاس، يشتَغلُ أحدُهُم بشُؤونِ أخِيه، وفي أيسَرِ شأنِهِ ما يُلْهِيه! ** مشكلة الإنسان المتطفل أن التجاوب معه، يجرّ كثيرًا من الحديث، ومزيدًا من التطفل. يسألني غريب: كم تتقاضى أجرًا عن الكتابة؟ فإذا أجبته أني لا أتقاضى شيئًا، وظننتُ أني بإشباعي لفضوله انتهى الموضوع، بدا أن الجوّ احلوّ له، واستمرّ يمارس التقصّي عن حياتي بمختلف أمورها ماديًّا ومهنيًّا ودراسيًّا. ** إذا هممت بالزواج، يسألونك لماذا لا تعش حياتك؟ وإذا (عِشت الحياة) أمطروا عليك الاستفهامات ومواعظ التزوج. إذا لم تنجب يستفهمون، وإذا حدث طلاق لا بد أن يعرفوا السبب ويتقصّون.. وهلمّ جرًّا؛ هم لا يكفّون عن ممارسة التطفل، ولا يستطيعون كبح جماح الفضول، وممارسة الوصاية؛ بذريعة الاهتمام والنصيحة، بل يستلذّون بذلك. ** أريد هنا أن أُشبّه بين الانسان المتطفل، والكائنات المتطفلة، التي تسمى علميًّا بالطفيليات، كالفيروس والبكتيريا، فكلهم يشتركون في تأثيرهم سلبًا على الآخرين، ويُعكّرون سلامهم وتكيفاتهم مع الحياة. والإنجليز، يُشبّهون المتطفل بالقطة التي ماتت بسبب فضولها، فيُحذّرونه بتعبيرهم: (الفضول قتل الهِرّة)، وأما الأطفال الصغار، فيبدو أنهم يشمئزون جدًّا ممَّن يتلقَّف خصوصياتهم ويقتحمها، فيردّون عليه بحدةٍ وبراءة (اللقافة: قرافة!) أعزكم الله وأكرمكم جميعًا. ** كل هذه التشبيهات من مختلف الفئات، تُخبرنا أن النفس البشرية تمقت اقتحام خصوصياتها، وتنفر من المتطفلين عليها، بل إن المغرمين بالتطفل والتقصّي، هم أنفسهم حسَّاسون من التدخل في شؤونهم، بل إنهم ويا للمفارقة، أكثر الناس تحفظًا وكتمانًا لخصوصياتهم. ** ولذلك فالحل الأمثل هو أن ترد على المتطفلين بنفس الأسلوب، كما فعلت أنا، عندما سألني غريب عن سعر مقتنياتي الشخصية؛ بكم اشتريتها؟ سألته هل تود أن تساعدني في ثمنها؟ غيّر الموضوع، وكررت عليه السؤال، فتلعثم وولّى مفارقًا! ** إن الفضول غريزة إنسانية، تجتاحنا جميعًا بنِسبٍ متفاوتة، ولكنها في ذات الوقت سلاح ذو حدين، فالفضول يكون تطفلًا مقيتًا منفرًا إذا وجهناه تجاه الأشخاص وشؤونهم؛ ولكنه يكون مفيدًا ورائعًا ومربحًا إذا استثمرناه في العلوم والمعرفة، وأصبحنا نتساءل أسئلة علمية، بل هو أهم ما ينفع حتى الشركات. هكذا صرَّح والت ديزني عن سر استمرار شركته في الإبداع، فقال: «لأننا نتمتّع بالفضول المعرفي، ولطالما كان الفضول المعرفي يقودنا إلى دروب جديدة!». ** وأخيرًا، كفى بمن أوتي جوامع الكلم، أن يختصر كل ما قُلته في عبارة نبوية واحدة: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وهنيئًا لمن انشغل بشأنه وعيبه، عن شؤون الآخرين وعيوبهم.