لم تعد المواقف المفصلية والجريئة تحتاج لساعات مخاض طويلة، كما لا تحتاج من الرجال التفكير لفترة من الزمن فعقارب الساعة تقف إجلالًا واحترامًا لكل موقف يقدم فيه الرجال الوطن على ذواتهم.. هذه هي الحقيقة فستة وعشرون ثانية فقط أبهرت العالم وغيرت ملامح الخارطة وقدمت صورة إبداعية للانتقال السلس والسهل للسلطة لم تعتده من قبل الشعوب والبلدان.. ستة وعشرون ثانية فقط حكاها فيديو تم تناقله كان بمثابة أقوى الدروس في الوطنية والإيثار وحب الوطن العظيم وعدم الاكتراث بالكرسي لأن الوطن أهم وأغلى. المترجل يبدو مرتاحًا وراضيًا لما قدم، ويدعو بالتوفيق والسداد لمن هو قادم في سدة المسؤولية الثقيلة فوق الأرض وتحتها، ويوم العرض. هنا الجميع جنود في مملكة الخير، يتسابقون نحو العطاء، لا يشغلهم الكرسي، بقدر بقاء راية وطنهم مرفوعة خلاقة. فعلى مدى الأيام القليلة الماضية كانت المملكة حديث العالم، ليس لتعيين ولي عهد جديد هو صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان فحسب، وإنما للطريقة التي تم بها ذلك، وكانت مثار إبهار وتقدير في العالم بأسره. في شريط فيديو مدته 26 ثانية فقط، قال السعوديون للعالم، ما لم تقله مجلدات، حيث الأمير محمد بن نايف الذي يترك منصبه يبايع ولي العهد الجديد الأمير محمد بن سلمان على السمع والطاعة في المنشط والمكره، ويؤكد أنه لا يمكن أن يستغني عن توجيهاته.. هكذا هو محمد بن سلمان، قمة في التواضع، بإصراره على تقبيل يد وقدم الأمير محمد بن نايف، في مشهد لن تجد له مثيلًا إلا في المملكة. وبروحه المتجددة يأبى محمد بن سلمان إلا أن يكون مجددًا في كل شىء، مانحًا المنصب من شخصيته الشيء الكثير، لم يقف الأمير ليتلقى البيعة في مشهدها التقليدى المعتاد، وإنما بادر بزيارة أعمامه وأبناء عمومته الكبار وكبار العلماء ليحظى بالبيعة منهم في تصرف نادر لا يأتيه إلا الكبار الذين يحفظون للجميع أقدارهم ومكانتهم، ويؤمنون بقيمة العمل الجماعي والاصطفاف في وقت مواجهة التحديات، وهي تتعاظم حاليًا بدءا من الإرهاب وإيران والحوثي وغيرها. دلالات المشهد وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، وجبت الإشارة إلى أن الأمير محمد بن سلمان في منصبه الجديد حظي بأعلى نسبة تأييد لدى هيئة البيعة لتولي المنصب الجديد، حيث بلغت الأصوات المؤيدة 31 صوتًا، من إجمالي 34 صوتًا، وهي نسبة أعلى من التي حصل عليها إبان توليه منصبه السابق وزيرًا للدفاع ووليًا لولي العهد، إذ اعترض أربعة وتحفظ اثنان. ولعل ذلك يشير من جهة أخرى إلى تعاظم التأييد لسياسات سموه الإصلاحية التي أحدثت هزة كانت مطلوبة على كل المستويات. أما ثاني دلالات هذا المشهد، فهي الكثير من الرسائل التي أعطاها للداخل والخارج، مؤكدًا على استقرار بيت الحكم، وسلاسة انتقال السلطة، في مشهد فريد، على عكس الصراعات على السلطة في بعض الدول العربية التي أودت بحياة الملايين وشردت ملايين أخرى في مختلف دول العالم. تحت سقف الوطن هنا في المملكة، الجميع منضوون تحت سقف الوطن، يعلون من شأن مكتسباته يوميًا، منطلقين في ذلك من أنها أعز وأغلى ما نملك، وأن الحفاظ عليها في صدارة الأولويات. ويقطع هذا المشهد أيضا، بما لا يدع مجالا للشك، الباب أمام أي طريق للشائعات التي تحاول بث الفرقة بين أبناء المجتمع، وقد تعودنا أن تطال المملكة في مثل هذه المناسبات، وتخرج مشاهد البيعة لتدحضها ولا تجعل لها مكانًا من الأعراب، وياليت أصحابها يتوارون خجلًا بعد أن اتضحت أكاذيبهم مرات عديدة، ولكن هيهات، بعد أن عميت القلوب عن رؤية الحقيقة الناصعة. ولعل صعود سوق الأسهم بنسبة 5.5% بعد الإعلان عن تولي سموه ولاية العهد يعكس حجم الارتياح والموثوقية في القرار وانعكاساته المستقبلية على مفاصل الاقتصاد وخطط التنمية، التي تستند إلى المكونات الكبيرة التي تتمتع بها المملكة، ولم يتم استغلالها بالشكل الكافي طيلة السنوات الماضية. ولاشك أن مشاهد البيعة المتواترة من قصر الصفا وحتى إمارة المنطقة الشمالية مرورا بالوسطى والشرقية والجنوبية ، تعكس ثقة السعوديين الكاملة بحسن ما يتفق عليه آل سعود، فيمن يتصدر المشهد والمسيرة مواكبة للظروف وتحديات المرحلة. جيل جديد والحقيقة أن المتابع للأحداث، منذ تسلم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز زمام المسؤولية في يناير 2015، لا يمكن أن تخطئ عينه، إنه - يحفظه الله - وضع في سلم أولوياته تجديد الدماء، والتأسيس لمرحلة جديدة تضع الوطن على قضبان التحديث والتطوير لمواكبة العصر والتحديات الاقتصادية الكبرى متمثلة في تراجع أسعار النفط، وأهمية بناء اقتصاد متعدد الاتجاهات. وقد تجلى ذلك في القرارات التي أعلنت فور توليه المسؤولية بضخ دماء جديدة شبابية في القيادة العليا، وفي إمارات المناطق، حتى تكتسب الخبرة اللازمة من الكبار ويمكن الاستعانة بها خلال سنوات في الصفوف الأولى. وفي الحقيقة، كانت الخطوة ضرورية وهامة، من أجل العمل على كل المستويات لتنفيذ رؤية 2030، التي تقوم على التعاون بين مختلف القطاعات، وقبل ذلك الإيمان القوي بها وبالمنطلقات والأهداف التي قامت من أجلها. ولاشك أن خادم الحرمين بخبرته الإدارية العريضة على مدار 50 عامًا كاملة بالداخل والخارج، نجح في إحداث هذا الحراك النوعي الذى يقود خطط التطوير لعشرين عامًا مقبلة على الأقل. إشادة دولية لم يكن مستغربًا أن يحظى تعيين الأمير محمد بن سلمان بهذا الكم الكبير من الإشادات، من قادة كبار في العالم يرون فيه شخصية أسطورية لما عرف عنه من شفافية ومكاشفة وإرادة جادة في التغيير وصلت إلى حد انتقاده الكثير من الممارسات في الوزارة التي يقوم على شؤونها، وهى وزارة الدفاع. وغني عن القول، أنه من هذه النقطة تقوم كل المراجعات والتقييمات الموضوعية من أجل تصحيح المسار، وإذا كانت الذاكرة تحفظ لسموه - على سبيل المثال- التصريحات التي أشار فيها إلى المبالغات في الإنفاق المالي على بعض المنشآت العسكرية التي يجب أن تكون بسيطة، وعدم وجود صناعات عسكرية وطنية تقلل من الاعتماد على الخارج، فلم يكن غريبا، أن يتم الإعلان سريعا ومنذ عدة أشهر عن إنشاء شركة وطنية للصناعات العسكرية من أجل توطين جزء من هذه الصناعات لتوفير المال وتوطين آلاف الوظائف. وفي هذا الصدد حظي قرار تعيين الأمير محمد بن سلمان وليًا للعهد بإشادات دولية من كبار القادة في العالم، الذين يرون في سموه رجل دولة يمكن الوثوق به والاعتماد عليه. ولم يكن غريبا أن يكون الرئيس الأمريكي أول المهنئين والداعمين للأمير محمد بن سلمان، وذلك عن معرفة وقناعة شخصية، بعد أن تكرست عرى العلاقة بينهما خلال لقاءات مطولة بين الرياض وواشنطن على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. وفي هذا الإطار يقول عنه ترامب، إن الأمير محمد بن سلمان قيادة شابة طموحة، قادرة على إصلاح الاقتصاد، كما أنه حليف قوي في الشرق الأوسط في مجال مكافحة الإرهاب ومنع تمويل الجماعات المتطرفة. أما الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين فيقف على الكثير من السمات الشخصية التي تؤهل الأمير محمد بن سلمان للقيادة، ويقول عنها: 1- الأمير محمد شريك موثوق ويفي بتعهداته دائمًا. 2- سموه مسؤول نشيط جدًا وشخص يعرف جيدًا ما يريد تحقيقه وكيف يحقق أهدافه. والواقع يشهد أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يرحمه الله بفراسة القائد والأب الداعم لأبنائه تنبأ بمستقبل مبهر للأمير محمد بن سلمان، أثناء تأديته القسم كوزير دولة بمجلس الوزراء في عام 2014، عندما قال له «أدعو الله أن يوفقك لخدمة الأمة العربية والإسلامية، وإن شاء الله تحكم أرضك». الحرب على الإرهاب لقد برز الاحتفاء العالمي بالأمير محمد بن سلمان من مواقفه وشجاعته التي أشاد بها الصندوق والبنك الدوليين، بعد الإعلان عن رؤيته 2030 للتوجه نحو اقتصاد إنتاجي وليس ريعيًا يقوم على الصناعة والكوادر البشرية المؤهلة، وترى الدوائر الدولية في سموه الكفاءة والقدرة على برمجة الرؤية إلى واقع ينقل المملكة من مصاف الدول النفطية إلى الصناعية، كما أن مواقفه المبكرة تعكس رؤية لا تلين في حماية الأمن ضد الإرهاب ومحاولات العبث بمقدرات الأمة العربية، ويتجلى ذلك بوضوح في رؤيته لإيران وصعوبة أن تلدغ المملكة من جحرها مرتين، وذلك نتيجة تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، وكذلك ضرورة التصدي للانقلاب الحوثي المدعوم إيرانيا في اليمن. وسبقت رؤية الأمير محمد بن سلمان بكثير توجهات القمة الإسلامية الأمريكية، التي شددت على ضرورة التصدي للإرهاب وتجفيف منابع التمويل، وذلك بتأكيد سموه من وقت مبكر على أن المملكة من أكثر دول العالم معاناة من الإرهاب، وأن مواجهتها معه هي الأكبر والأعنف. ولم يفت سموه التأكيد أيضًا على أن مواجهة داعش ممكنة من خلال تعاون السعودية ومصر والأردن وبعض الدول الشرق الأوسطية الأخرى، وهي الثوابت التي توصلت لها القمة تقريبا، وستكون المملكة الركيزة الأساسية في العمل على تطبيقها من خلال الذراع الفكرية، «مركز اعتدال» الذي يستهدف القضاء على الفكر المتطرف من الجذور وتهيئة البيئة اللازمة لتعزيز قيم التسامح والاعتدال والتواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة، وهي الأفكار التي تدعو لها المملكة منذ إطلاق جولات الحوار المشترك في عام 2008. تحديات المستقبل وإذا كانت اللُحمة الوطنية قد بدت واضحة في مشهد البيعة سعودي الهوية والهوى بامتياز بالغ، فإن المرحلة المقبلة تتطلب ترجمة ذلك إلى واقع على الأرض في خضم التحديات التي يواجهها الوطن في الداخل والخارج. إذ لا زلنا في المراحل الأولى لرؤية 2030، التي تضع الوطن على مسارات متعددة للمستقبل بدلًا من طريق النفط السابق، ومع الخروج من عنق الزجاجة، كما يؤكد صندوق النقد الدولي في عامى 2015 و2016، بفضل الإجراءات السريعة التي تم اتخاذها لإنعاش الاقتصاد والميزانية، فإن المرحلة الراهنة لاستنهاض كل القطاعات للإنتاج والبناء تعد الأصعب بكل تقدير، لاسيما على صعيد الصناعة والخدمات والسياحة، ويبقى التحدي الأكبر أمنيًا بكل تأكيد بعد رصد أكثر من 1000 مخطط إرهابي للنيل من المملكة على مدى 30 عامًا، وهو الأمر الذي يعيه سمو ولي العهد تمامًا، وتشكل من أجله التحالف العربي من أجل إنقاذ الشرعية في اليمن، والتحالف الإسلامي بقيادة المملكة والذي يضم أكثر من 40 دولة، وأخيرًا التحالف الإسلامي الأمريكي الذي وضع التصدي لخطر الإرهاب وتجفيف قنوات تمويله على سلم الأولويات. حمى الله الوطن من كيد الحاسدين، وحفظ سلمان الحزم والحسم، وألهم محمد بن سلمان الصواب، إنه القادر على كل شيء.