فضَّل اللهُ بعضَ الأزمنةِ وخصَّها بمزيدِ ثوابٍ لمَن عمل فيها الطَّاعات، ومنها شهرُ رمضانَ الذي هو سيَّدُ شهور السنة، بالنسبة لعمل الطَّاعات من صلاةٍ، وصيامٍ، وذكرٍ، وتلاوةٍ، هو شهرٌ تشعُّ أنواره، إذا أقبل فَرِحَ لقدومه الصالحُون. فهم ينتظرُون أن تُفتح به أبواب السماء، وأبواب الجنة، وتُغلق أبواب جهنَّم، وتُسلسل، وتصفَّد الشياطين، فسيِّدُنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: (إذَا دخلَ شهرُ رمضانَ فُتحتْ أبوابُ السماءِ وغُلِّقتْ أبوابُ جهنَّم وسُلسلت الشَّياطين)، وهم ينتظرُون فيه ليلةً من أعظم الليالي، بل أعظم ليلةٍ في السنةِ هي ليلةُ القدر، التي فيها -بإذن الله- يغفرُ اللهُ لعباده المسلمين الخطايا، وتغسل عنهم فيها ذنوبهم، صوم نهارها، وإحياء ليلها عظيمُ الأجرِ، ألم يقلْ سيدنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفر لهُ ما تقدَّمَ من ذنبهِ، ومَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر لهُ مَا تقدَّم من ذنبِهِ)، والعمرةُ في هذا الشهرِ العظيمِ تعدلُ حجَّةً، كما جاء في الحديث: (إنَّ الحجَّ والعُمرةَ لمن سبيلِ اللهِ وأنَّ عُمرةً في رمضانَ تعدلُ حجةً)، وصومُ رمضانَ وعملٌ فيه مكفِّرٌ للسنةِ كلِّها، فقد ورد في الحديث: (الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذَا اجتُنبتْ الكبائرُ)، وهو شهرُ القرآن، الذي فيه أُنزل، فاللهُ يقول: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، الآية، وهو الفرصة العظمى لتدارس القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وعلى المسلم إذا تلا القرآن أن يتدبَّر معانيه؛ ليعمل بأحكامه، فما أُنزل إلاَّ لهذا، وألاَّ تكون قراءته سردًا، لا يتوقف فيها عند معنى عظيم يتدبرّه، ودعوة للخير ينتهزها، فحقِّقوا -إخواني- أن رمضان شهر القرآن بحقٍّ، ولتعيشوا معه في أيامه ولياليه بقلوبكم قبل أسماعكم وألسنتكم، وتذكَّروا في رمضان إخوانًا لكم يجوعُونَ في هذه الأرض، ونعم الله فيها لا حصرَ لها، فأحسُّوا بما يعانُون، ومدّوهم بما أفاضَ اللهُ به عليكم من بعض هذه النعم، فهو أيضًا شهرُ الصدقات، ورد في الحديث الشريف: (كانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أجودَ النَّاسِ، وكانَ أجودَ مَا يكونُ في رمضانَ حينَ يلقاهُ جبريلُ، وكانَ يلقاهُ في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ فيدارسُه القرآنَ، فلرسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أجودُ من الرِّيحِ المرسلةِ)، وما أعظم القدوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأوقات الفاضلة، فاجعلوا -سادتي الأكارم- من شهر رمضانَ زمنًا للتَّدرب على الاقتداء بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل برٍّ وطاعةٍ، وتعلَّموا الصبرَ في رمضانَ، فأنتم تمنعُون أنفسكم عن الطعام والشراب والشهوة، وتعلَّمُوا كسرَ شهوات النَّفس من شهوةِ الجسد واللسان والعين والأذن، وسائر الجوارح، فليس الصومُ امتناعًا عن الطعام والشراب فقط، وكذا الطاعة، بل إنَّ سائر الشهوات (نفسيَّة وحسيَّة) إنْ لم تُردع جرَّتْ على الإنسانِ الكثيرَ من البلايا، واجعلوا من هذا الشهرِ شهرًا للتَّسامح، فكونوا مع إخوانكم وأقاربكم وجيرانكم وأهل وطنكم في خيرِ حالٍ، لا تحملوا لهم إلاَّ كلَّ خيرٍ، ولا تبقوا في صدوركم غِلاًّ لأحدٍ، ولا تجدوا فيها على أحدٍ، فما جعلَ اللهُ هذا الشهرَ وأمثالَه من الأزمنةِ الفاضلة إلاَّ لتطهِّروا النفوسَ من أمراضها المهلكة لها، كالبغضاءِ والكراهيةِ والحسدِ. إنَّ استغلال الأزمنة الفاضلة، لا يكونُ إلاَّ بكلِّ هذا، واعلموا أنَّ مَن خرجَ رمضانُ ولمْ ينلْ فيهِ من الحسناتِ ما تغلبُ شهواتِهِ وسيئاتِهِ لهُو الخاسرُ المبينُ. اللهمَّ فاجعل رمضانَ شاهدًا لنَا لا شاهدًا علينَا، إنَّك تجيبُ المضطرَّ إذا دعاكَ.