مثل ريشة لطير موجوع.. لا بل مثل قشة ضئيلة.. مثل شيء مهلهل وقديم لا يحفل به أحد كنت أصارع الموج بمركبة ملأى بأحبابي بأهداب عيني التي تحدق الآن في المجهول، برفقاء دربي الخانق هذا.. نتقاسم الموت مثلما تقاسمنا الضحكات والرقصات والنكات والأحلام.. وبعض الخبز واللحم من مطاعم الكورنيش.. مثلما هلّلنا وكبّرنا وانتظرنا يوم عرفة.. ها نحن نتحول إلى شيء لا وزن له ولا طعم ولا لون ولا رائحة.. إننا نغشى الماء ويغشانا حتى نطفو.. نختنق.. نتلاشى.. نتبخّر.. تنسى جدة أحلامنا وضحكاتنا وبقايا مقرمشاتنا على كورنيشها الساحر.. أعرف أن عاملاً بسيطاً يكنس مكاننا الآن.. في اللحظة التي يتعاظم بها الموج كجوار كنّس تبتلعنا إلى الأبد.. تشابكت أيدينا هذه اللحظة.. نحاول أن نغيب معاً.. ملمس الأيدي الباردة.. الرمق الأخير العالق بالحياة.. أعرف تلك اليد القوية إنها يد أمي.. وتلك اليد الرقيقة يد أختي.. والصغيرة يد عبودي.. وتلك لحمودي وذاك أصبع نجاة وتللك إسوارة مها.. نغيب معاً.. نتحول في هذه اللحظة إلى كتلة من هلع تحاول أن تواجه الطوفان.. يفرقنا الموج.. تغدر بنا قوانا.. نخرج من النوافذ.. نسمع صراخ البشر.. أنينهم.. آخر كلماتهم وتنهداتهم.. من ينزل سيموت.. كنت أسمع.. كنت أعي.. كنت أغادر جدة هذه اللحظة وهي تصرخ.. عاجزة عن مد يد العون لي.. كنت أسمع نشيج رجالها الواقفين ينظرون موتي لحظة بلحظة.. عاجزين.. يتحسّبون ويستغيثون.. كنت أرى جوالاتهم تلتقط وداعي الأخير للمدينة التي أحببتها وخذلتني.. كنت أعرف أن الناس ستشاهدني عبر اليوتيوب.. فلطالما أرسلت مقاطع ضاحكة لعبث حمودي ومواقفه التي أضحكت الكثيرين.. لم أتخيل يوماً أن أخرج من الحياة وأنا أصارع طوفان جدة الغادر.. ما كنت لأتصوّر أن تتخلّى عني الحياة بهذه السهولة.. كنت أحسبها متشبثة بي.. وراضية ببقائي ضمن قوائمها الذهبية.. لم يخطر ببالي أنني خارج حساباتها وأنني مجرد فتاة حالمة تآخت مع الطيور والبياض والسحاب.. فتاة تصافح الحياة من على كورنيش جدة.. ثم يبتلعها الطين والمطر والقش وبقايا الشجر.. ما كنت لأتخيّل أن الناس سيشاهدون لحظة اختناق أحلامي بماء المدينة التي عشقت... وما بلغت أحلامي على اتساعها حد أن أكون مثيرة لحزن كاتبة تدوّن مذكراتي الأخيرة.. ليقرأها الناس بعد أن أتبخّر.. أتبخّر أغيب مثل فقاعة هزيلة لا يبكي لرحيلها أحد!! [email protected]