تؤدي وسائل الإعلام دوراً مهماً في المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء فهي أدوات لنشر المعارف والثقافات والعلوم وترتبط ارتباطاً وثيقا بنهضة هذه المجتمعات ورقيها. وكما أنها أداة بناء وازدهار هي في الوقت نفسه معول هدم وتدمير لقيم المجتمع وأخلاقياته وعاداته المعتبرة إذا وجهت نحو الاتجاه المغاير. وفي العصر الحديث، عصر السماوات المفتوحة -كما يطلق عليه- انتشرت وسائل الإعلام، خصوصاً الفضائيات- بدرجة كبيرة وتعددت وتباينت أدوار هذه الفضائيات، فرأينا منها ما هو حريص على غرس القيم والأخلاق والحث على العمل والإنتاج ومحاربة البطالة والظواهر الاجتماعية غير السوية، وفي المقابل وجدنا فضائيات لا همَّ لها سوى إثارة الغرائز وحث الشباب على ارتكاب المعاصي بمنهج لا يمكن أن يسمى بأقل من مجاهرة بالمعصية بمستوى فضائي. (الرسالة)، طرحت على عدد من العلماء وخبراء الإعلام موضوع المجاهرة بالمعاصي على الفضائيات ودور المطلوب من هذه القنوات الإعلامية في المجتمعات الإسلامية، فكان هذا التحقيق. مخاطر عظيمة في البداية تناول الشيخ الدكتور سعد الحميد الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود خطورة المجاهرة بالمعصية، بالقول: إن المجاهرة بالمعاصي من الخطورة بمكان، وجاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل فيبيت يستره ربه فيصبح يقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا فيبيت يستره ربه فيكشف ستر الله عنه). وتابع: وإذا ما تأملنا حال ذلك المجاهر بالمعصية فإننا نستطيع أن نقول إن وجود هؤلاء المجاهرين في الأمة ينبني عليه مخاطر عظيمة جداً منها: أن فيه استخفافا بالله جل وعلا، فهم كما قال سبحانه (وما قدروا الله حق قدره) ولوأنهم عظّموا الله جل وعلا وعرفوا قدره لما استهانوا واستخفوا بتلك المعصية التي يبارزون الله جل وعلا بها. وكذلك أن المذنب والعاصي المجاهر بذنبه لم يقتصر في الذنب على فعله فقط، بل سعى إلى إشاعته ودعوة الناس إليه، وينطبق عليه قول الله جل وعلا :{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}، وبلا شك هذه من أعظم مخاطر المجاهرة بالمعاصي. وأضاف أن هناك خطرا ثالثا من المجاهرة بالمعصية يتمثل في أن المجاهر بمعصيته يدل على نفسه بأنه فيه وقاحة وقلة حياء وقلبه مريض بل ميِّت، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري أنه قال : (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وهذا هوواقع هؤلاء المجاهرين فإنهم حينما عُدموا الحياء الذي هوأحد شعب الإيمان أصبحت المجاهرة خلقاً من أخلاقهم وطبعاً من طبائعهم، وفي الحديث الذي رواه الإمام مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله). خُلُق ذميم وبيّن د. الحميد أن كل بني آدم خطّاء ولكن هناك فرق بين إنسان يعمل الخطأ وهو يستحي ويستخفي بذنبه، وربما كان عنده وازع من دين فيخاف الله، ولكنه يفعل هذه المعصية وهويرجومغفرة الله ورحمته أما ذلك المجاهر فإنه لا شيء عنده من هذا كله فلا الخوف من الله ولا الحياء من خلقه ولا يرجو مغفرة الله لأن الذي يرجو هذه المغفرة لابد أن يصاحب ذلك شيء من السلوك الذي يدل على وجود مثل هذا الرجاء وطلب المغفرة والرحمة، أما المجاهر فسلوكه لا يدل على هذا بل يريد أن يشترك معه الناس في هذا الخلق الذميم وهذه المعصية التي بارز الله جل وعلا بها. وأضاف وإذا ما نظرنا وتأملنا في الأحكام التي تصدر من أهل العلم في حال هؤلاء الذين يجاهرون بالمعاصي فإننا نجد أن من يجاهر بمعصيته لا حرمة له عند أهل العلم، ويأتي هذا في أحكام كثيرة مذكورة في كتب الفقه وإذا أردنا أن نأخذ على سبيل المثال بعض هذه الأحكام فإن منها مسألة الصلاة، فأهل العلم يحذِّرون من الصلاة خلف من يجاهر بمعصيته،كذلك أيضاً لومرض يقولون إن المجاهر بمعصيته لا تنطبق عليه الأحكام والآداب التي حثت عليها النصوص الشرعية مثل عيادة المريض، بل إنه ينبغي ألا يُعاد كسراً لشوكته وتحذيراً للناس من ذلك الفعل. وكذلك في أحكام كثيرة مذكورة في كتب الفقه كلها تدل على أنه ينبغي للمجتمع بأسره من إمام وقضاة وأهل علم وفضل وعامة الناس أن يقفوا في وجه المجاهر بمعصيته مثل هذه الوقفة التي لوكان المجتمع صادقاً في الوقوف بها لما وُجِد بيننا من يستطيع أن يجاهر بالمعصية مثل هذه المجاهرة بل يعرف أن المجتمع بأسره سيكون وقافاً في وجهه وواقفاً ضده، ولهذا لا بد أن نستشعر مثل هذه المسائل وأهميتها. وشدد الدكتور الحميد على أن المجاهر بالمعصية أكبر إثما من غيره لأنه ،إضافة إلى أنه وقع في الإثم مثل ما وقع غيره، فإنه أيضاً أسهم في نشر هذا الإثم ودعا إليه، لهذا كان المجاهر بالمعصية أعظم إثماً من غيره، لأنه جمع الآثام كلها، ولا شك أن إثم الدعوة لهذا المنكر عن طريق المجاهرة يكون أعظم من إثم ذلك على الانفراد، لأن هذا الإثم سيتكرر بحسب أولئك الذين يقتدون ويتأثرون به فإذا كان فعل هوالمعصية فعليه إثم هذه المعصية لكن إن فعلها فلان من الناس فإنه يكون جمع إثم ذلك الشخص إلى إثمه هوفكيف إذا تعددت هذه الآثام بتعدد مرتكبيها. مشارك في المعصية وحول اختلاف المجاهر في وسائل الإعلام عن غيره، قال د. الحميد لاشك أن وسائل الإعلام من الوسائل التي إن استخدمت في الخير فإنها تبني وإن استخدمت في غير ذلك فإنها تهدم، وإذا لم يتق الله القائمون على هذه الوسائل، فإن إثمهم يكون أعظم من آثام أولئك المجاهرين، لأن ذلك المجاهر يمكن أن يجاهر بمعصيته في نطاق ضيق، ليس كنطاق هذه القنوات وتأثيرها في المجتمعات فإذا جاهر على سبيل المثال أمام أصحابه، كم يكون أصحابه؟ لا أظنهم يمكن أن يبلغوا أصابع اليدين ولنفترض أنهم بلغوا ألفاً، مع العلم أنهم لا يتصور أن يبلغوا هذا العدد، لكن هذه القنوات يرتسم أمام شاشاتها ملايين البشر، فإذا كانت هذه القنوات تسهم في إبراز هؤلاء المجاهرين وتبجيلهم وتعظيمهم وجعلهم كمثال لدعوى الحرية المزعومة، فلا شك أن من يشارك في الإثم فإنه آثم لقول الله جل وعلا (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، فما من إنسان يشارك في معصية إلا وعليه وزر تلك المعصية تماماً سواء بسواء. وهذه الوسائل إن لم يتنبه أصحابها القائمون عليها لعظم الوزر الذي يقومون به فإنهم لا أقول ماتت قلوبهم فقط بل إن كان هناك عبارة أعظم من هذا فإنها تنطبق في حقهم. أدوار متعددة أما د. عبد الله بن ناصر الحمود أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فقال: ينبغي النظر إلى الفضائيات بشكل عام على أساس أنها إحدى وسائل الاتصال المتاحة اليوم والمتقدمة جداً في المجتمعات الإنسانية، بل يمكن النظر إليها باعتبارها إحدى أهم هذه الوسائل، وبالتالي فهي تقوم بأدوار متعددة في المجتمع، وبالتالي لا يمكن إلا أن تكون المهمة المناطة بالفضائيات هي مهمة شاملة ومتعددة بأقصى درجات الأهمية. أما د. فهد بن عبد الله الطياش أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود فقال في تعليقه على هذه المسألة عندما نشر الصحفي روبرت فيسك مقاله في صحيفة الأندبندنت البريطانية عن الإسلام في الإعلام الغربي بتاريخ 3-12- 1997م خلص إلى نتيجة مهمة لخصها في هذه الجملة: (إن هناك تعمدا مستمرا للإساءة للدين الإسلامي بكل الطرق الإعلامية الممكنة من قبل الصحافة والإعلام الغربي), والسؤال الآن هل الإساءة للدين والقيم والعادات والتقاليد المكونة لثقافتنا التي نعتز بها ونعتز بالانتماء إليها أصبحت قاصرة على الآتي لنا من إعلام غير المسلمين أم أن بيننا من أصبح يخوض في ساحة الإعلام بلا حسيب ولا رقيب؟ الجواب بكل بساطة يأتي من القاعدة السلوكية المعروفة (من أمن العقوبة أساء الأدب). وإذا أصبحت الساحة الإعلامية وخاصة العابرة للحدود القانونية للمجتمعات لا تعطي أهمية كبرى للجانب الأخلاقي أو القانوني في المجتمعات الأخرى طالما أن مصالحها لم تتأثر أو العقوبات المفروضة عليها غير جديرة بالاهتمام. ووسائل الإعلام الخاضعة لقوانين السلطات الثلاث يعرف فيها حدود البث والنشر أما الخاضع لقوانين التجارة فتجفيف منابع الإعلان تقطع الحياة عن شرايينه فيموت ببطء لحين العودة إلى المسار الصحيح. وتابع الدكتور الحمود بأن المشكلة التي نواجهها اليوم مع الفضائيات هي أن أغلبها مع الأسف الشديد أصبح منفلتا من كثير من القواعد الأساسية للعمل الجمعي أوللعمل المشترك، ومن ثم بات معظمها في حالة تتنافس لخدمة أهداف مختلفة ومتباينة تتقدمها وتسودها بلا شك أهداف متنوعه فضلا عن لجوء بعضها إلى قضايا الإثارة بمختلف مسمياتها من أجل جذب المشاهد. وبين د. الطياش أن الجنس والعنف وتعليم الجريمة والتفسخ وتحدي أخلاقيات المجتمع أصبحت المصدر المشوق وعنصر التسويق الرئيس في بعض الفضائيات الموجهة لسد الفراغ في مجتمعنا. فما هويا ترى هذا الفراغ وقال اعتقد جازما أننا لوحاولنا البحث في جذور المشكلة لوجدناها أعمق جرحا في ثقافتنا من حادثة عابرة لمجاهر بالمعصية. فكل إناء بما فيه ينضح زد على ذلك أن الساحة الإعلامية المتاحة لفهم النصوص الشرعية وتحويلها إلى منتوج إعلامي لم تتوفر بعد بشكل طبيعي يسمح لكل المشاركة بحرية وشفافية. أشياء مخالفة للدين وحول هل يحق للفضائيات التعرض لقضايا مثيرة للجدل أوأشياء مخالفة للدين مثل المجاهرة بالمعاصي وإثارة المجتمع ضدها في هذا الشأن؟!!، قال د. الحمود: الإعلام له أن يفعل ما يشاء إذا فقد البعد القانوني أوإذا نقص الإطار القانوني الذي يحكمه، ومن المؤسف أننا في الوطن العربي والإسلامي ونظراً لنقص تجربتنا الإعلامية وتسارع تطور وسائل الإعلام والاتصال في السنوات القليلة الماضية وثبات كثير منا على أدبيات حريات الإعلام والممارسة الإعلامية أصبحنا في بحر لجي من الممارسات الإعلامية سواء على الفضائيات أوغيرها وهي ممارسات متلاطمة لا يحكمها قانون واضح ومحدد. وأضاف: أصبح الكلام عن تقنين الإعلام أقرب إلى الشبهة أوالتهمة باحتكار الحريات ومصادرتها لأن تجربتنا الإعلامية ليست بذات النضج الموجود في دول أومجتمعات متقدمة في هذا الإطار وسبقتنا بسنوات. واستطرد قائلا: وبالتالي عملية أن تفعل الفضائيات ما تريد أن تفعله بالالتقاء بأحد المجاهرين بالمعاصي أوغير ذلك هو بالتأكيد هو شيء سيئ والدور اليوم على المجتمعات التي تواجه مثل هذه الإساءات أن تحاول أن تتلمس الأُطر القانونية التي يمكن من خلالها مقاضاة ومحاكمة مثل هذه الوسائل. من جانبه أضاف د. فهد الطياش: عند الحديث عن المجاهرة بالمعصية أوخرق الثالوث المنيع (الدين والسياسة والجنس) فان المجتمع يقف سداً منيعا أمام من يعمل ذلك. ولكن وفق أي سلطة وأي ضوابط يتم التعامل مع من يخترق حاجز الصد الأخلاقي ويعبث بأسس العقد الاجتماعي لمجتمعنا؟ السياسة الإعلامية في المملكة وفي الدول العربية واضحة المعالم بل إن البعد المجتمعي المتمثل في مؤسسات المجتمع المدني أيضا تنقصها الكوادر المؤهلة لمتابعة تلك البقع الآسنة في فضاء الإعلام العربي. ورأى د. الحمود أن الفضائيات لن تكون أدوات بِناء على الإطلاق حتى يصبح المجتمع كله أدوات بِناء ولا يمكن أن نعلق فشل مجتمعاتنا العربية والإسلامية على الفضائيات التي تعبر عن الواقع المرير الذي تعاني منه هذه المجتمعات في العصر الراهن وهي جزء من الإشكالية الموجودة على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، والسياسية. وأردف د. فهد الطياش فقال: لا أعتقد أننا بحاجة إلى شرطة أخلاق إعلامية وإنما إلى ثقافة مجتمعية نكون فيها أهم المدافعين عن أخلاقنا وديننا. وأضاف قائلاً: باختصار وسائل الإعلام نار تشتعل بأموال الإعلان فمتى جف منبع النار خمدت تلك الوسائل تحت رماد الجهل الاقتصادي. فالبداية بناء مرصد أخلاقي إعلامي يثبت الشق المادي لجرائم التعدي باختلاف أنواعها ومن ثم يصبح صوت المرصد هوصوت الجمهور الرافض لتلك الفضلات الإعلامية.