قبل خمسين عاماً مضت وانقضت كان لدينا هامش من الحرية الفكرية والاجتماعية المريحة.. إعلامنا الرسمي لا تفوته مناسبة فنية محترمة إلا وشارك في نقلها مباشرة من موقعها.. فيروز، وديع الصافي، أم كلثوم، عبد الوهاب، وفريد الأطرش..... ..... كانت لدينا دور عرض سينمائي مفتوحة في معظم أنديتنا الرياضية تُباع لها التذاكر دون تدخل.. بل إن حفلات غنائية وموسيقية محلية تقيمها الإذاعة بين الحين والحين.أما المسارح المدرسية على شتى مستوياتها كانت جزءاً من أنشطتها الرياضية.. وفجأة بدأت تضيق دائرة ذلك الهامش رويداً رويداً إلى درجة الانغلاق والإغلاق مما دفع بأقلام تبحث عن مخرج من ذلك الصعود إلى الأسفل! تحول ذلك الهامش إلى طرح الكثير من علامات الاستفهام والتعجبّ بحثاً عن جواب مقنع. صوت المرأة مشكوك في صحته.. وتعليم المرأة مشكوك في سلامته ناهيك عن وجهها وقيادتها للسيارة وفق ضوابط تحكم تلك القيادة!أذكر منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً أنني طالبت في صحيفة الجزيرة في عهدها الأول برئاسة الصديق الأستاذ خالد المالك بفتح دور عرض سينمائي ومسرحي تحت إشراف الدولة يقضي على الفراغ الذي يخيِّم علينا بمخاطره آنذاك.. بعد نشر المقال انهالت أقلام.. وأفواه تهاجمني إلى درجة التسفيه والتكفير.. طيلة ثلاثين يوماً امتلأت الصفحة ما قبل الأخيرة من صحيفة الجزيرة بالسباب والرفض والتشهير. بل إن كلمة وعاؤنا الصدق والغيرة على هذا الوطن وسماحة معتقده المستمدة من كتابه الكريم القائلة.. (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فتحت عليَّ أبواباً لا يمكن غلقها أفضت الى اغلاق (الإشعاع) إلى غير رجعة.. وإلى بعض من التأديب والتهذيب.. والإقصاء إلى مسقط الرأس. رؤوس أقلام لفترة زمنية أوشكت على الانقضاء والانطواء في ظل زمن ثورة المعلومات، والكمبيوتر، والإنترنت، والفضائيات، والمتغيرات الحياتية، والاجتماعية التي لا تقبل التراجع ولا التوقف. وهذا ما أدركته عن وعي وقناعة ومسؤولية قيادتنا الحكيمة التي بدأت تعيد عقرب الساعة الزمنية من الأسفل إلى الأعلى في حركة واثقة ومتأنية ومبصرة ومدركة أننا جزء من عالم واحد غير قابل للانكفاء.إن مشهداً جديداً لحركة حياتنا الإعلامية، والعلمية، والاجتماعية، والاقتصادية بدأ يأخذ دوره من جديد، فاعلاً ومتفاعلاً مع ما حوله متمسكاً بثوابته وخصائصه المتجددة. وما هذه الجامعات.. وعشرات آلاف المبتعثين عبر العالم.. وما هذه العناصر الشابة المؤهلة التي أتيحت لها فرصة المشاركة في خدمة هذا الوطن بمقدراتها وقدراتها العلمية إلا المؤشر لما نرنو إليه. وما كنا ننتظره على أحر من الشوك، وأحر من الشوق. نقول للأمس الرتيب وداعاً.. ونقول لليوم الحبيب مرحباً، ونقول للغد القريب نحن في انتظار بسلاح المعرفة.. بسلاح العلم، والعمل الذي لا يقبل المثبطات، ولا يرتهن زمنه ولا تاريخه للمحبطات. إنه زمن الصعود إلى الأعلى، لا زمن الصعود إلى الأسفل. الرياض: ص.ب 231185