يمهد عبيدو باشا لكتابه الأخير"سيَر"الصادر عن دار الفارابي بمقدمة مطولة تبدو لشدة تنوعها وغنى الموضوعات التي تتناولها وكأنها مشروع كتاب مستقل، إن لم أقل انها مشاريع كتب متعددة حول الثقافة والثورة والسينما والمسرح وبيروت والاقتصاد المعولم. فعبيدو لم يرد لمقدمته أن تكون مجرد تلخيص مكثف لما سيرد في كتابه الضخم الذي يناهز الخمسمئة والخمسين صفحة ويقدم سيراً مختلفة لإحدى عشرة شخصية لبنانية كانت لها إسهاماتها الكبيرة والرائدة في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والأغنية والتلفزيون وعلوم اللغة والفن التشكيلي، بل أراد لهذه المقدمة أن تتضمن أفكاره ومقارباته ونظرته الى ما آلت اليه مدينته بيروت في أزمتها الأخيرة من دون أن يغفل التجوال في شؤون الثقافة وشجونها الكثيرة. ربما أفصح الاهداء الذي وزعه عبيدو باشا على الشهداء الثلاثة: رفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي عن التورية والكلام الموارب الذي لم تقله المقدمة في شكل صريح لئلا تقع في الخطابة والتبشير السياسيين. ذلك ان شهادة الثلاثة المعنيين بالإهداء، حيث لم يكن جبران تويني قد انضم بعد الى القافلة، كانت التتويج المأسوي لانحدار المدينة نحو هاوية الرعب وإفراغها من المحتوى ونحرها المتعمد على مذبح المصالح المحلية والاقليمية والدولية أو على مذبح الجشع والجهل وتسفيه المعرفة."كأنه إرث دموي لا بد من تصفيته". يقول المؤلف حول كتابه الذي استغرقت كتابته وتحضيراته المضنية سنوات عدة كما يظهر من سياق النصوص التي يعود معظمها الى حقبة التسعينات من القرن المنصرم وصولاً الى السنوات الأولى من القرن الحالي. أما الوقت الذي اختاره عبيدو لنشر كتابه على الملأ فلم يكن كما يظهر من التقديم وليد الصدفة المجردة، بل توافق مع لحظة المأساة الفاصلة في حياة المدينة والوطن حيث كل شيء يبدو الى انهيار فيما لحظة التأسيس المقابلة لم تتضح بعد. لهذا يحلو للمؤلف أن يشبّه الكتاب بكتاب"الامتاع والمؤانسة"لأبي حيان التوحيدي وأن يقيم مواءمة من نوع ما بين أحوال الأمة والمنطقة زمن أبي حيان وبين أحوالها المحزنة والمريبة في هذا الزمن. شخصيات وحقبة تغطي الشخصيات الإحدى عشرة التي اختار عبيدو باشا أن يروي سيرها بقلمه الشخصي حقبة مهمة ومثيرة للجدل من تاريخ لبنان الثقافي والفكري والابداعي، يبدأ معظمها مع النصف الثاني من القرن العشرين من دون أن نغفل الهوامش الزمنية السابقة على هذا التاريخ أو المتأخرة عنه. يضم الكتاب سيراً متفاوتة المساحة والنبرة لكل من الشيخ عبدالله العلايلي وجورج نصر ونزار ميقاتي وتوفيق الباشا ومحمد كريم وعارف العارف والرحابنة وفيروز وبول غيراغوسيان ومحمد شامل ووجيه ناصر ورفيق شرف، ما يعني بوجه من الوجوه تأريخاً مرفقاً بالشهادات الشخصية والوقائع والآثار الأدبية والفنية لكوكبة لامعة من الأسماء التي شكلت جزءاً لا يتجزأ من روح بيروت وألقها الثقافي وبخاصة في عقدي الخمسينات والستينات وسنوات السبعينات السابقة على الحرب الأهلية حيث شهدت المدينة طفرتها الاقتصادية والاجتماعية والابداعية مستفيدة من موقعها الجغرافي الفريد وتكوينها الثقافي التعددي ومن الهامش الديموقراطي الذي تمّ غض النظر عن نموِّه من جانب الآخرين قبل أن يتضافر الآخر مع الأنا على تحويل الفردوس الى جحيم وفسحة الأمان الهانئة الى ساحة للقتل وتصفية الحسابات وإخماد التجربة في مهدها. لم يكن الكتاب وليد صدفة أو قرار سريع بتكريم بعض الرواد وأهل القلم والفن إذاً. ولا كان محاولة مبيتة لتلفيق بعض السيَر التي تخص نجوماً حديثي الوفيات بغية قطف الثمار المادية واستثمار عقد الذنب الجماعية في مثل هذه المناسبات، بل كان وليد قرار بالغ التأني وعمل بالغ الجهد وأسلوب بالغ التخمُّر والاضافة والحذف. انه قرار الابن بپ"تصفية الحساب"مع الأب، وفق تعبير المؤلف، لا بغية قتله ونسيانه والاجهاز عليه، بل بغية تكريمه والاعتراف بفضله والتذكير بتضحياته من جهة وبغية مساءلته ونقده وتجاوزه من جهة أخرى. فتقديس الآباء وتحويلهم الى تماثيل ونصب للعبادة يوقع الأبناء في العنة والتقليد والعجز عن صياغة أنفسهم، فيما لا يسهم قتل الآباء ونفيهم واستبعادهم المطلق إلا في البلبلة والقفز في الفراغ والعدمية المفرطة. لا يمكن هذه المقالة السريعة أن تحيط بتفاصيل السير التي تناولها المؤلف، كما ان هذه الاحاطة لن تغني إذا حصلت عن قراءة الكتاب نفسه. فالسير المدونة ليست مجرد حكايات ووقائع وأحداث تلقفها المؤلف من أصحابها بالذات في حال تسنى له ذلك أو من أبنائهم وعارفيهم في حالات أخرى، بل هي نصوص أدبية عالية يتداخل فيها السرد مع الحوار والحكاية مع الوصف والتعليق وفن الكولاج بفن البورتريه والتحقيق الصحافي مع اللمعات الشاعرية العالية. انها مقاربات سردية شبيهة بالرثاء لتلك الوجوه التي شغفت بالحياة الى حد الاسراف والافراط في مطالع حيواتها ثم ما لبثت أن انحنت على حسراتها وأحلامها المقصوفة في مواجهة الشيخوخة وانقطاع الأمل ودنو لحظة الموت. الشيخ عبد الله العلايلي نتعرف بداية الى صورة الشيخ عبدالله العلايلي وهي تتقلب بين مرايا العالم اللغوي والمفكر المستنير والشاب المتمرد والمناضل السياسي والشيخ الذي لبس العمامة من طريق المصادفة، والذي أسهم مع كمال جنبلاط في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، والذي ضاق بحثه عن الحرية بكل الانتماءات والقوالب الجاهزة، والذي اعتبر ان حجاب المرأة ومفهوم التسوير هو"مفهوم تركي، وتركي فقط". بعده يجيء دور عارف العارف المربي الأعمى والمثقف المتنور والمحامي الجريء وصاحب كتاب"مرقص العميان"الذي نسجه العارف على منوال"الأيام"لطه حسين والذي قال عنه مارون عبود بأنه"إذا قصَّر عن أيام طه حسين في حلاوة النص فهو يفوقه في عمق التفكير والتحليل النفسي". أما السيرة التي يرويها عبيدو فيسقط بعض ملامحها من تتلمذه يافعاً على العارف ومن أخبار غريبة ومأسوية ينقلها اليه ابنه المحامي والكاتب أسامة العارف. تختزل عناوين السيَر فحوى هذه السيَر والخلاصات التي يصل اليها المؤلف بعد تعرفه العميق الى شخصيات كتابه وأدوارهم المختلفة على مسرح الحياة أو الابداع. هكذا يختار للمخرج السينمائي جورج نصر، الذي لم تمكنه الظروف من تحقيق طموحه السينمائي الواسع الذي طرق أبواب هوليوود في لحظة من اللحظات، عنوان"الغريب الكبير". وعلى رغم ما يبدو في ظاهر العنوان من التهويل، إلا انه يصبح مبرراً الى حد بعيد حين نعرف أن أفلام نصر الروائية اقتصرت على ثلاثة فقط خلال سبعة وثلاثين عاماً من الركض وراء سراب السينما الجادة والعميقة. مع سيرة الرحابنة وفيروز يكتسب الأسلوب المزيد من الحرارة والاندفاع والتفاعل مع احدى أهم الظاهرات الفنية والابداعية في لبنان الحديث. وهو إذ يتعامل مع الرحبانيين بوصفهما شخصاً واحداً نصفه شاعر ونصفه الآخر موسيقي يجنح أكثر فأكثر باتجاه عاصي الذي مضت عشرون سنة على غيابه من دون أن يتمكن الموت من زحزحته قليلاً الى الوراء. ذلك أنه وفق تعبير عبيدو نفسه"صوت لكل الأزمنة. أصالة مشغولة على الذاكرة ومشدودة الى تاريخها وقائمة على الشد الدائم ناحية المستقبل". وفيما يتدخل زياد الرحباني مراراً لتصويب سيرة عاصي ورفدها ببعض الوقائع يتدخل عمر ميقاتي في شكل أوسع لكي تستقيم سيرة والده المخرج المسرحي والاذاعي نزار الذي قدم من خارج بيروت شأنه شأن معظم أبطال الكتاب لكي يقدم اسهامه الأساس في تحويل المدينة الى عاصمة حقيقية للتنوير والرحابة والتنوع. سيرة اخرى لبول غيراغوسيان يقدم خلالها الفنان التشكيلي الطليعي مقاربات وخيوطاً متناثرة حول المرأة والطفولة واللون واللوحة لا يلبث المؤلف أن يضم بعضها الى بعض ليحيلها الى حياة حقيقية من لحم ودم. كذلك الأمر بالنسبة الى الموسيقار توفيق الباشا الذي شاءت الصدف أن يرحل قبل أسابيع ويهدي حياته الغنية والشاقة والحافلة بالمآثر الى محبي فنه وموسيقاه تاركاً بعض سيرته في عهدة عبيدو باشا وبعضها الآخر في عهدة من يريد التوسع في روايتها في المستقبل. نتعرف أيضاً الى محطات أساسية في حياة محمد شامل التي يدرجها المؤلف تحت عنوان"حكمة الحكواتي"والى محطات مماثلة من حياة المخرج المسرحي والاذاعي محمد كريم، الوحيد المتبقي على قيد الحياة من بين زملائه وأقرانه في كتاب السير، والذي يعتبره المؤلف"أحد المؤسسين البارزين لتجربة المسرح اللبناني. بل هو أحد أوائل المحترفين في نظام معقود دائماً على المبادرات الفردية". خروج على النص يشكل الفصل المتعلق بالمخرج المسرحي وجيه ناصر ما يشبه الخروج على النص في كتاب عبيدو باشا. ففي حين تتسم السير العشر الأخرى بالتعاطف الواضح والانجذاب الوجداني الذي لم يحاول المؤلف إخفاءه أو حجبه عن القارئ، يتبدى لنا في المقابل ضمور هذا التعاطف وانعدامه في حالة ناصر بالذات. فنحن هنا ازاء شخصية غريبة يراوح حضورها بين المأساة والملهاة وبين اثارة السخرية وإثارة الشفقة. وما يقدمه عبيدو من توصيف دقيق لذلك الرجل المتماهي مع جورج أبيض ويوسف وهبي الى حد الانفصال التام عن حقائق الحياة الجديدة، يذكِّرنا الى حد بعيد بشخصية"الابن المصبر"لفينوس خوري غاتا، حيث يتسمر بطل الرواية عند لحظة التقائه بالجنرال ديغول ثم يتحول الى تمثال جسدي للحظة التي لم لن تتكرر. في مقابل ذلك يبدو الفصل المتعلق برفيق شرف أحد أكثر فصول الكتاب توهجاً واشراقاً وإحاطة بالحياة التي يتناولها. وهو امر لا يعود فقط الى الصداقة التي تجمع بين الطرفين ولا الى الاعجاب الذي يكنه المؤلف للفنان الراحل، بل الى شخصية شرف الحافلة بالمغامرة والجرأة والتحدي والى المفارقة القائمة بين ظاهره النزق والمغلق والاستعلائي وبين باطنه الحزين والطفولي والمحب للآخرين. تنبغي الاشارة أخيراً الى القدرات العالية التي يظهرها عبيدو باشا في تفكيك شخصياته وردها الى عناصرها الأولية ومن ثم اعادة تركيبها وفق مفهومه الخاص وبعيداً من تراتبية الزمن العادي. فهو قد يعود الى الحادثة الواحدة مراراً عدة ولكنه يقاربها كل مرة من زاوية مختلفة أو يضيف اليها أبعاداً جديدة. وهو يتلاعب بالزمن بحيث لا تفتأ الشخصية عن العود على بدء والهجرة المتكررة من الطفولة الى الشيخوخة وبالعكس.