يُشار إلى (سدّ الذرائع) على أنه من أصول الفقه عند الإمامين (أحمد بن حنبل ومالك)، دون التنبيه إلى أنه فهم فقهي متقدم له زمانه ومكانه. وتوسع بعض من ذوي التأهيل المتواضع والنيات الحسنة -وكذلك المُسيَّسين الحزبيين- توسع في استخدامه، حتى صار فزّاعة معاصرة، تسد منافذ التقدم والنهضة، وتحول دون القبول بكل ما هو جديد في حركية الحياة المتجددة عند البشر، بتوهم المفسدة المترتبة على القبول بكل جديد. مع أن الذريعة: (عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه؛ يُخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع). هذا سدّ من أعظم السدود التي عرفناها في حياتنا، والتي كادت تقف في وجه مشاريع مصيرية للدولة والمجتمع، لولا الله سبحانه وتعالى، ثم حكمة ولاة الأمر من حكام هذه البلاد النهضويين بطبعهم، من عهد الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - حتى اليوم ومساندة الكثير من أصحاب الفضيلة العلماء. أما (سدّ السائد)- وهذه التسمية من عندي- فحدثوا عنه ولا حرج، هو لا يقل خطرًا عن سابقه إن لم يفقه، فإذا كان الفهم الفقهي الذي (كان) منذ مئات السنين مطية لاستخدام (سد الذرائع)، فالفهم اللغوي لمصطلح (السّائد) الذي يقوم على: (الطاغي، والبارز، والغالب، والشائع، والمسيطر المُسلَّم والمعترف به على العموم).. هذا الفهم المشتمل على ما تعارف عليه الناس من تقاليد وعادات في حياتهم، هو ذاته الذي رفعه ورقّاه المعادون للتحديث من أرباب التطرف والتشدد في الحياة، إلى درجة شبه دينية، وركبوا صهوته، بهدف تخويف وتفزيع المجدِّد والمحدِّث الذي لا يرتهن لخططهم وسياساتهم، لوقف قرارات مصيرية مهمة ليس لهم فيها مصلحة، ولعرقلة كل بادرة تطويرية وتغييرية في أساليب الحياة، إدارية وترفيهية وتعليمية واجتماعية، يرون أنها قد تسحب البساط من تحت أقدامهم، خاصة وهم بأفكارهم الرجعية الجامدة لا يملكون أدوات العمل الفعلي، ولا القدرة على المسايرة والانخراط في الجديد. ليس إنكارهم وصخبهم على برامج ترفيهية وتعيين امرأة في منصب إداري إلا امتداد لتاريخ وضع الحواجز، وإقامة السدود، وتفزيع القيادي، ووضعه داخل (دائرة احتواء)؛ لا يتحرك فيها أو يخرج منها إلا بأمر ومشورة منهم وحدهم. هكذا علمتنا الأيام مع حزبيات (الصَّحَاينة) في أكثر من مؤسسة ودائرة في كل المناطق والمحافظات. وزارة التعليم؛ خير شاهد على هذا، والجامعات التي ألحقت بها؛ دليل آخر لا يقبل الشك، ذلك أن الصراعات التي تدور فيها؛ هي صراعات تُدار بمفهوم (السدّ)، سواء كان (ذرائعيًّا) أو (سائديًّا). حتى إذا استعصى عليهم احتواء القيادة وتسخيرها لمصالحهم؛ لجئوا إلى تسلق الهرم (السدي) حتى أعلاه، طلبًا للمناصرة ممن يملك الصوت الأعلى. تصوروا.. لو ارتهنت البلاد منذ تأسيسها إلى فزاعات القوم؛ ووقفت خلف السدود التي يبدعون في تصويرها وتشييدها؛ هل خرج تعليمنا من حلقات التحفيظ؛ إلى آفاق المدارس والمعاهد والمراكز والجامعات..؟ وهل تعلمت المرأة ونالت حظها في الحياة من أنوار العلم والمشاركة في بناء الوطن وخدمة المجتمع..؟ وهل وصل طلاب العلم من أبنائنا إلى أرجاء المعمورة؛ بحثًا عن العلوم العصرية النافعة..؟ تصوروا.. لو أن الملك عبد العزيز - رحمه الله -؛ أصخى سمعه للمفزعين والمخوفين من بناة السدود في وقته؛ هل عرفنا شيئاً اسمه اللاسلكي، والبرقيات، والهاتف، والراديو، والبسكليت، والسيارة، والطائرة، والباخرة..؟ وهل حفرنا آبار البترول؛ وأصبحنا روادًا في صناعة النفط ومشتقاته..؟! تصوروا.. لو أن الملك سعود -رحمه الله-؛ استسلم لمحرّمي ومجرّمي تعليم المرأة؛ هل أصبح لدينا مدارس ومعاهد ومراكز وجامعات للبنات..؟ وهل شاهدنا مئات آلاف المعلمات والممرضات والطبيبات السعوديات في أرجاء المملكة كافة..؟ تصوروا.. لو أن الملك فيصل -رحمه الله-؛ خاف وقتها من فتاوى السدود التي ثارت ضده.. هل كان لدينا تلفزة حقيقية، وهل تحولنا من عهد التوقيت الغروبي إلى التوقيت الزوالي، ومن عهد الهنداسة إلى زمن المتر، ومن عهد الأقة إلى زمن الكيلو..؟! تصوروا.. لو أن الملك خالد والملك فهد والملك عبد الله -رحمهم الله- ثم الملك سلمان -حفظه الله وأيده بنصره- وإلى جانبهم الكثير من أصحاب الفضيلة العلماء وقفوا حيث يريد رواد السدود التاريخية في حياة المجتمع؛ هل أصبحت بلادنا -بحمد الله- اليوم في قلب العالم الحضاري؛ نهضة، وتطورًا، وريادة، وقيادة، على المستويات كافة، وهل كنا اليوم مواطنين في وطن؛ أم كنا شطبنا من حياتنا (الوطن)، لأنه في عرفهم: (وثن)، يتضاد مع أمميتهم المقيتة..؟ تصوروا، وتصوروا.. أنا أذكر أمثلة بسيطة فقط، وعلى الباحثين الجادين حصر أعداد وأشكال السدود المنيعة التي أقامها فقيه طيب لم ير في حياته من الدنيا سوى جبال وكثبان الجزيرة العربية، وآخر حزبي يسير وفق أجندة سياسية ذكية ليست مستعجلة، تقوم على إضعاف الحاكم، وتجهيل المحكوم، وفصل الاثنين عن محيطهما والعالم كله، حتى لا يبقى في المشهد إلا هو وحزبه الشيطاني. نقلا عن الجزيرة