ظلت قضية أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين في مقدمات أولويات القيادة السعودية، بل إنها قضيتها الأولى التي لم تدخر جهداً في سبيلها عبر تاريخها الطويل، حيث تجسد قضية القدس ذروة الاهتمام بالجانب الإسلامي الفلسطيني. فالمملكة العربية السعودية لا تساوم على قضايا مصيرية تبني مواقفها منها على قواعد الدين والأخلاق والمسؤولية التاريخية لها كدولة رائدة للعمل العربي والإسلامي، ورائدة في الدفاع عن تلك القضايا التي يرتبط بها حاضر ومستقبل ومصير الأمة العربية والإسلامية. لقد كان من أهم دواعي قلق المملكة العربية السعودية من تطورات الصراع العربي الإسرائيلي عام 1967م احتلال اسرائيل للقطاع الشرقي من المدينة المقدسة والدخول في تهويد المدينة. فقد تبنت المملكة العربية السعودية قضية القدس الأرض والشعب والمقدسات نصراً ودعماً ودفاعاً منذ عهد المؤسس الباني الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله إلى هذا العهد الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حفظه الله ووقفت بكل صلابة في مواجهة المؤامرات الصهيوينة ضد المدينة ومقدساتها ومحاولات طمس تاريخها الإسلامي واغتصاب أرضها وتهجير أهلها وصولاً إلى إحداث تغيير ديمغرافي يرجح الكفة اليهودية. وقد انطلقت المواقف السعودية بشأن القدس من اقتناع راسخ بأن القدس هي صلب القضية الفلسطينية التي هي محور الصراع العربي الاسرائيلي. فلا تمر مناسبة محلية أو عالمية تكون لها صلة بالأمة العربية والإسلامية دون أن تؤكد المملكة قولاً وفعلاً وتجدد موقفها المبدئي والثابت من قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة. وإذا كان موقف المملكة المميز والرائد من الصراع العربي الإسرائيلي لا يحتاج إلى دليل ، فإن موقفها من القدس يكتب لها بأحرف من نور في سجلات التاريخ. فقد دعمت تمسك المواطنين الفلسطينيين بأرضهم ومقدساتهم ووقفت إلى جانبهم تخفف عنهم وطأة الاجراءات التعسفية التي تمارسها السلطات الإسرائيلية ضدهم. ولم يأل الملك عبدالعزيز رحمه الله جهداً في تأكيد عروبة القدس وإسلاميتها، ففي رسالة وجهها إلى الرئيس الأمريكي الراحل روزفلت في 7/10/1358ه الموافق 29/11/1938م بين فيها رحمه الله قدم الوجود العربي في فلسطين ومما جاء في هذه الرسالة قوله: (إن سلطان العرب كان منذ الزمن الأقدم على فلسطين إلى زماننا هذا، وقد كان العرب في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة، معظمين لمقامها محترمين لقدسيتها، قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص، أما حقوق العرب في فلسطين فإنها لا تقبل المجادلة لأن فلسطين بلادهم منذ أقدم الأزمنة وهم لم يخرجوا منها كما أن غيرهم لم يخرجهم منها وقد كانت من الأماكن التي ازدهرت فيها المدنية العربية ازدهاراً يدعو إلى الاعجاب، ولذلك فهي عربية عرفاً ولساناً وموقعاً وثقافة وليس في ذلك أي شبهة أو غموض، وتاريخ العرب في تلك البلاد مملوء بأحكام العدل والأعمال النافعة). وبعد إحراق العصابات الصهيونية المسجد الأقصى في 21/8/1969م طلب الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله عقد مؤتمر إسلامي لمعالجة الوضع والنظر في خطورة إحراق المسجد الأقصى، وبالفعل عقد أول مؤتمر إسلامي في الرباط بالمملكة المغربية في الشهر الذي تلا حريق الأقصى، حيث وضع حجر الأساس لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقد أنشئت لجنة القدس للمحافظة على عروبة القدس وطابعها الإسلامي. وتدعم المملكة صندوق القدس الذي تأسس في نطاق الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي في مايو 1976م ويهدف إلى مقاومة سياسة التهويد والمحافظة على الطابع العربي والإسلامي ودعم كفاح الشعب العربي في القدس وفي بقية الأراضي المحتلة. وكانت المملكة في مقدمة دول العالم العربي والإسلامي التي استنكرت قرار الحكومة الاسرائيلية بضم مدينة القدس واعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل، وقد اصدر الديوان الملكي السعودي بيانا ندد فيه بالقرار الإسرائيلي واعتبره خطوة عدوانية ضد الأمة العربية والإسلامية وجاء في البيان: (إن هذه الخطوة تعتبر قراراً خطيراً يستوجب صحوة الضمير العالمي للوقوف ضد هذا الإجراء الإجرامي الذي يهدف إلى تدنيس القدس الشريف ووضعه إلى الأبد تحت السيطرة الاسرائيلية). وأكد البيان (ان المملكة العربية السعودية تؤمن إيماناً مطلقاً بأن لا سلام ولا استقرار في المنطقة مالم يتحقق السلام العادل الذي يعطي الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة على أرضهم ووطنهم وعودة الأراضي العربية إلى ماكانت عليه قبل عام 1967م). وفور صدور هذا البيان بدأت المملكة اتصالات مكثفة عربياً وإسلامياً ودولياً لمواجهة اجراءات الحكومة الاسرائيلية في ضم القدس. وتعاونت المملكة مع الدول الإسلامية حتى صدر قرار مجلس الأمن رقم 478 في عام 1980من الذي يطالب جميع الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس بسحبها فوراً وهو القرار الذي أجمعت مختلف الأوساط على اعتباره نصراً للدبلوماسية الإسلامية وإحباطاً للخطط الصهيونية تجاه مدينة القدس. وبادرت المملكة العربية السعودية إلى تنظيم ندوة عالمية خاصة حول (قضية القدس) دعت إليها قادة الفكر والرأي ورجال السياسة والأساتذة المختصين فاجتمعوا في العاصمة البريطانية في ديسمبر 1979م وفي الرسالة التي وجهها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حين كان ولياً للعهد أعلن فيها أن قضية القدس هي أهم المرتكزات لسياسة المملكة الخارجية. وكانت النداءات المتكررة من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض ورئيس اللجنة الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين للتبرع لصندوق القدس صوناً لمقدسات المسلمين في القدس الشريف من الاندثار، كانت هذه النداءات هي البلسم الشافي لسكان المدينة المقدسة انتظاراً لتحريرها وفك أسرها من براثن الاحتلال الصهيوني. ومن منطلق رسالة المملكة ودورها الإسلامي وحرصها على مدينة القدس كحرصها على مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة والحرمين الشريفين، واستشعاراً منها بالمسؤولية الإسلامية جاءت مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز بتحمل المملكة نفقات ترميم وإصلاح قبة الصخرة والمسجد الأقصى ومسجد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومساكن الأئمة والمؤذنين بالقدس في ابريل 1992م بمثابة موقف حازم يعكس الاهتمام العميق بالمقدسات الإسلامية، وان هذه المقدسات تجد اليوم من يحميها ويصونها ويدافع عنها ضد مخططات اعداء الإسلام والمسلمين. وجاء تبرع الملك فهد بن عبدالعزيز بمبلغ عشرة ملايين دولار لدعم صندوق القدس الشريف في المؤتمر الحادي والعشرين لوزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في كراتشي في ابريل 1993م ليؤكد صدق وثبات توجهات مبادىء المملكة العربية السعودية في أن القضية الفلسطينية هي قضية سعودية. وجاءت كلمة الملك فهد بن عبدالعزيز في افتتاح الدورة الثالثة والثلاثين للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في ديسمبر 1993م والتي أعلن فيها أن المملكة لن يهدأ لها بال حتى يعود المسجد الأقصى المبارك إلى المسلمين لتؤكد من جديد أن المملكة العربية السعودية التي جعلت من قضية القدس الشريف قضية كل مسلم لن ترضى الا بإزالة كل العدوان عن المدينة المقدسة وعودتها إلى أصحابها الشرعيين وانه إذا لم تتحرر القدس فما من عربي أو مسلم سيشعر بهدوء النفس والضمير، لتشكل انسجاماً مع مواقف المملكة التاريخية والراسخة إزاء قضية القدس. وفي فبراير 1994م صدرت تعليمات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز برعاية حملة تبرعات شعبية على مستوى جميع مناطق المملكة يخصص ريعها وايرادها لأغراض إعمار وإنقاذ المقدسات الإسلامية في القدس الشريف من جراء الاجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى طمس هوية القدس العربية والإسلامية، حيث حملت هذه الحملة اسم (حملة إنقاذ القدس الشريف). وقد وجه سمو الأمير سلمان نداء للتبرع للقدس جاء فيه: ((إن القدس تناديكم لتسارعوا إلى نجدتها وإنقاذها وإعمارها بالتبرع بما تجود به نفوسكم من مال وتستنهض هممكم العالية التي عودتنا الاستجابة لكل دواعي الخير كلما دعاكم الضمير لنصرة قضية إسلامية وهذا عهدنا بكم دائماً)). إن المملكة العربية السعودية تعتبر أن لديها مسؤولية خاصة تجاه القدس الشريف، لذلك كانت مواقفها من وضع القدس خصوصاً وقضية فلسطين عموماً واضحة وثابتة باستمرار. يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز ((إن المملكة وقفت ولا تزال ضد سياسات الاستيطان البغيض في فلسطينالمحتلة والانتهاك الصريح لحقوق الشعب الفلسطيني، لقد اختلفت المملكة مع الولاياتالمتحدة في هذا الصدد وأعلنت رأياً صريحا حول خطورة استمرار تجاهل الحكومة الأمريكية للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني مع استمرار دعمها لإسرائيل، وأعلنا رأينا للعالم عن وجوب عودة القدس إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الاعتداءات الاسرائيلية)). وفي مؤتمر القمة الإسلامية السابع الذي انعقد في الدار البيضاء في المملكة المغربية في ديسمبر 1994م أكد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني رئيس وفد المملكة المشارك في القمة على (ان قضية القدس الشريف تمثل جوهر النزاع العربي الاسرائيلي إلى جانب كونها قضية المسلمين الأولى وليس من الممكن أو المعقول قيام سلام شامل ودائم في الشرق دون التوصل إلى حل عادل لهذه القضية). وفي إطار السياق العام والتوجهات السياسية الثابتة للمملكة تجاه مدينة القدس وجه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض ورئيس اللجنة الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين نداء في 17/2/1995م لإنقاذ القدس الشريف وقد تبرع الأمير سلمان بن عبدالعزيز بمبلغ نصف مليون ريال لمدينة القدس. وفي الندوة العالمية لشؤون القدس التي عقدت في روما في مارس 1997م أكد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز أن المملكة العربية السعودية دائماً في موقع الأحداث في كل (مايتعلق بقضية القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين لما لها من قدسية خاصة حيث هي الأرض التي أسري إليها رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ومنها معراجه عليه الصلاة والسلام إلى السماء)، وقد أعرب خادم الحرمين الشريفين عن قلق المملكة البالغ لما قامت به اسرائيل من فتح نفق على طول أساسات المسجد الأقصى مما يقدم دليلاً جديداً علىقيامها بالعمل على تهويد مدينة القدس الأمر الذي يتنافى مع الواقع الديموغرافي لمدينة القدسالشرقية جزءاً من الأراضي العربية التي احتلتها اسرائيل عام 1967م. وعندما اتخذ الكونغرس الأمريكي في يونيو 1997م قراراً باعتبار مدينة القدس عاصمة موحدة لإسرائيل وتخصيص مائة مليون دولار لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس أعلنت المملكة العربية السعودية معارضتها لهذا القرار، واعتبرت هذا القرار انحيازا واضحا ضد ترسيخ أسس السلام في المنطقة وفق مرجعية مدريد وأوسلو وواشنطن. وعندما أقدمت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو في يونيو 1998م على اتخاذ قرار بتوسيع حدود مدينة القدسالمحتلة وتوسيع سلطات بلديتها، أدانت المملكة هذه الخطوة واعتبرت هذا القرار غير شرعي وغير قانوني ويشكل انتهاكاً خطيراً للمعاهدات والاتفاقات الدولية، وأدانت ما اتخذته السلطات الاسرائيلية من سياسات وإجراءات بهدف احداث تغييرات سكانية ومؤسسية من شأنها تهويد القدس العربية وتغيير الواقع القانوني والتاريخي والديني والحضاري لها، ودعت المملكة مجلس الأمن الدولي لتحمل مسؤولياته تجاه السلام والعدل للقضية الفلسطينية، وخصوصا نحو الموقف الخطير في مدينة القدس والانتهاكات التي تواصلها سلطات الاحتلال تجاهها مما يهدد المنطقة كلها بأفدح العواقب. وجاءت جولة صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني إلى كل من الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين واليابان وكوريا الجنوبية والباكستان لدعم قضايا الأمتين العربية والإسلامية، وخصوصا القضية الفلسطينيةوالقدس الشريف، حيث أكد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في لقائه مع قادة هذه الدول على رفض المملكة العربية السعودية التام لأي إجراءات أو سياسات أو أعمال تمس مدينة القدس وتغيير هويتها العربية وأن ما تقوم به اسرائيل في مدينة القدس من أعمال لتهويد المدينة المقدسة وتغيير معالمها وتوسيع حدودها وتوسيع سلطات بلديتها بالاستيلاء على مزيد من الأراضي بالقهر هو امتداد للعمل الاجرامي والمشين المتمثل بالمحاولة الصهيونية بحرق المسجد الأقصى، ومؤكداً في الوقت نفسه على وقوف المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز يحفظه الله إلى جانب فلسطين أرضاً وشعباً لاسترداد كامل حقوقها وفي طليعتها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف، وموقف سموه في واشنطن يؤكد من جديد أن الخطاب السياسي والإسلامي للمملكة تجاه فلسطين والقضية والمقدسات الإسلامية في القدس ثابت لا يتغير، حيث شدد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بعد اطلاعه على صيغة البيان السعودي الأمريكي المشترك وخلوه مه ذكر القدس وعودتها للفلسطينيين أجاب بحزم بأنه لا يوقع بياناً لا يذكر فيه القدس فكان لسموه ما أراد. مما سبق نلاحظ أن قضية القدس هي القضية المحورية التي تمثل عمق البعد الروحي لدى المملكة العربية السعودية، وانها تأتي في مقدمة مرتكزات السياسة الخارجية للمملكة، حيث لعبت الدبلوماسية السعودية دوراً بالغ الأهمية في تركيز اهتمام العالم على قضية القدس والتأكيد على عروبة المدينة المقدسة وتجريد المحتل الاسرائيلي من وهم الشرعية التي يحاول أن يضفيها على نفسه بتطبيق سياسة الأمر الواقع وسلاح القوة والبطش.