وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    خام برنت يصعد 1.3% ويصل إلى 75.17 دولار للبرميل    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    6 فرق تتنافس على لقب بطل «نهائي الرياض»    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    استقالة مارتينو مدرب إنتر ميامي بعد توديع تصفيات الدوري الأمريكي    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أ,د, عبدالرحمن بن سعود بن ناصر الهواوي
جغرافية الأرض في شعر المتنبي - 4 -

إنه من المعروف علمياً في وقتنا الحاضر أن الكرة الأرضية تسبح في الفضاء وتدور حول محورها داخل حقل الجاذبية للشمس، في حين يدور القمر حول الأرض وجاذبية القمر لماء البحر هي المسؤولة عن حدوث ظاهرتي المد والجزر، بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى التي تتحكم في توقيت حدوثها، وتحديد مدى ارتفاع المد أو هبوط الجزر على طول أيام الشهر العربي, ومن هذه العوامل جاذبية الشمس للأرض، ودوران القمر حول الأرض، وقوة الطرد المركزية لدوران الأرض، وتوزيع الماء واليابس على سطح الأرض, والمد هو تقدم ماء البحر باتجاه الساحل.
أما الجزر فهو انحساره وسط البحر، ويحدث أعلى ارتفاع (الجزر) للماء على الساحل في منتصف الشهر العربي أي عندما يكون القمر بدرا، وأقل انخفاض للماء ومده على الساحل عندما يكون القمر في المحاق، والسبب في حدوث ارتفاع الماء أن قوة جذب القمر في منتصف الشهر العربي تكون شديدة.
قال أبوالطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها كافوراً:
1 وإنّي لَفي بَحرٍ مِنَ الخَيرِ أصلُهُ
عَطاياكَ أرجُو مَدَّها وَهيَ مَدُّهُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: المد: الزيادة، ومد البحر: زاد, والمعنى: يقول: أنا في بحر من الخير، يريد: لكثرة مايصل إليه من البرّ والصلات, ويريد: إني أرجو عطاياك، فإنها زيادة البحر الذي أنا فيه.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة، ويرثي ابن عمه تغلب:
2 وإن جَزِعنا له فلا عجبٌ
ذا الجزر في البحر غيرُ معهود
يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يقول: الجزر يكون فيما دون البحر، فإذا جزر البحر، فذلك أمر عظيم، فشبه موته (موت ابن عم سيف الدولة) بجزر البحر، وهو رجوع مائه إلى خلف ونضوبه.
لقد استخدم شاعرنا في بيتيه السابقين ظاهرتي المد والجزر التي تحدث في البحار ووضعهما في المكان المناسب في القصيدة، ففي البيت الأول يقول الشاعر إنه في بحر من الخير، وهذا الخير أصله من عطايا كافور التي يرجو أنها تزداد وتمتد كما يمتد ويزداد ماء البحر عند الساحل, وهنا إشارة مباشرة إلى حدوث ظاهرة المد في ماء البحر, ويقول أبوالطيب في بيته الآخر: إن ظاهرة انحسار ماء البحر هي ظاهرة متكررة الحدوث، ولكن موت ابن عم سيف الدولة هي حالة من الجزر غير معهودة أو معروفة.
ومن الظواهر الأخرى التي تحدث في البحار والمسطحات المائية الأخرى؛ ظاهرة الأمواج والتيارات، وهذه الأمواج تختلف عن تيارات المد والجزر من الناحية العلمية، فالأمواج عبارة عن ارتفاع وانخفاض سطح ماء البحر على هيئة مسارات دائرية، يقل نصف قطرها كلما ازداد العمق من سطح الماء، فإذا كان عمق المياه كبيراً تتكون أمواج متذبذبة دائرية الشكل، أما إذا قل العمق وقرب قاع البحر، فإن مسار الماء يأخذ شكل قطع ناقص، وعندما يصل عمق الماء إلى حد معين فإن كتلة الماء تفقد توازنها وتندفع إلى أعلى خط الشاطىء، وتسمى الأمواج في هذه الحالة بالأمواج المتكسرة.
وقد تعمل الزلازل والانهيارات داخل البحر على زيادة سرعة جميع هذه الأمواج البحرية، وتتحرك المياه الداخلية بسبب فروق درجات الحرارة، أو لوجود مصبات الأنهار وماتلقيه من مواد فتاتية إلى داخل البحر، ومن المعروف أيضاً أن حركة هذه الأمواج والتيارات البحرية المختلفة تقوم بلفظ المواد والشوائب الطافية نحو الشاطىء على هيئة زبد، ومن هذه المواد النباتات والأعشاب البحرية الأخرى، والحيوانات الميتة، والبقع الزيتية وغيرها من المواد.
قال أبوالطيب في قصيدة يمدح بها علي بن ابراهيم التنوخي:
1 والموج مثلُ الفحولِ مزبدةً
تهدر فيها ومابها قَطَمُ
2 والطيرُ فوقَ الحبابِ تَحِسبها
فرسان بُلق تخونها اللّجُمُ
يقول العكبري في شرح البيت الأول:هدر الفحل: إذا هاج وأخرج زبده, والقطم: شهوة الضراب, ومنه: فحل قطم, والموج: جمع موجة، فلهذا قال: كالفحول، كقوله تعالى: موج كالظلل , والمعنى: يصف البحيرة ويذكر موجها، وأنه يهدر ويزبد، كهدير الفحل من غير قطم، وشهوة ضراب، ويقول العكبري عن البيت الآخر: الحباب: طرائق الماء, والأبلق: ماكان فيه سواد وبياض, وشبهها ببلق الخيل، لأن زبده أبيض، وماليس بمزبد فهو يضرب إلى الخضرة, والمعنى: شبه الطير على الماء في حال رفرفتها، وانغماسها فيه بفرسان مضطربة على ظهور الخيل، وشبه الموج ببلق الخيل عند اختلاف الأمواج, وقوله: تخونها اللجم أي تنقطع أعنتها، فهي تذهب حيث شاءت.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها عضد الدولة:
3 تعوم عوم القذاةِ في زبدٍ
مِن جُودِ كفّ الأمير يغشاها
يقول العكبري عن هذا البيت: تعوم: تسبح، والقذاة: الشيء اليسير، وهو الذي يصيب العين فتدمع منه, والمعنى: يقول: هذه الجارية (أحد جواري الممدوح) التي وهبها في عطاء جم كالبحر الزبد، فهي كالقذاة في بحر مزبد, وروى أبوالفتح: زبد (بكسر الباء)، وهو الكثير الزبد، لكثرة مائه.
لقد أشار شاعرنا المتنبي في بيته الأول من أبياته الثلاثة السابقة إلى أمواج البحر وأصواتها، وشبه أصواتها بصوت هدير الفحل (الجمل) الهائج، إضافة لذلك فقد أشار الشاعر في بيته أيضاً إلى ماتحمله أمواج البحر من مواد وشبهها بالزبد الذي يخرج من أفواه فحول الإبل عند هيجانها، أما في بيته الثاني فشبه ببلق الخيل (ماكان فيها سواد وبياض) عند اختلاف الأمواج, وهنا يتبين لنا دقة ملاحظة شاعرنا الفذ لأن أعلى (أو سطح) الموجة تضربه أشعة الشمس مباشرة فيبدو أبيضاً أما أسفلها فهو أقل تعرضاً للأشعة فيبدو مسوداً، ومع الحركة يتداخل السواد والبياض كما يتداخل اللونان مع بعضهما في الخيل البلق, وشبه الشاعر في بيته الثالث الجارية التي وهبها عضد الدولة بالقذاة في بحر مزبد من كثرة جوده وكرمه وعطاياه.
وقال أبوالطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1 هوَ البحرُ غُص فيه إذا كان راكداً
على الدرِّ واحذَره إذا كان مُزبدا
2- فإني رأيتُ البحرَ يعثرُ بالفتى
وهذا الذي يَأتي الفَتى متعمّدا
يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى: ضرب له (لسيف الدولة) المثل بالبحر, يقول: البحر يسلم راكبه إذا كان ساكناً، فإذا ماج وتحرك كان مخوفاً، كذلك هذا، ائته مسالماً، ولا تأته محارباً, وقال الخطيب: لا تأته وهو غضبان, ويقول العكبري عن البيت الآخر: المعنى: يقول: البحر يغرق عن غير قصد، وهذا يهلك أعداءه عن قصد وتعمد.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
3 وكذا تطلع البُدورُ علينا
وكذا تَقلَق البحُور العظامُ
يقول العكبري عن هذا البيت: البدور: جمع بدر، وإنما أراد: بدر السماء، وهو واحد، فكأنه جعل بدر كل شهر على حياله بدراً، فجمع لذلك, والمعنى: يريد: أنك بدر وبحر، فعادتك كعادتهما، لأن البدر يطلع تارة، ويغيب تارة، والبحر يموج ويضطرب ويتحرك، وكذا أنت تقلق في الأسفار كالبدور، فتطلع علينا سائرة وتبدو لأعيننا راحلة، والبحر يمد ويجزر ويضطرب، فبين بهذا أنه من عظم شأنه لايستقر به موضع.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافوراً:
4 وبَحرُ أبو المِسك الخضمّ الذي لَهُ
على كل بحرٍ زخرة وعبابُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الخضم: الكثير الماء, والزخر: تراكب الماء, وعباب البحر: شدته وقوته؛ وقيل: تراكم أمواجه؛ وقيل: لجته ومعظمه, والمعنى: يريد: وخير جليس، أو خير من يقصد إليه أبو المسك البحر، الذي أوفى على كل بحر جوداً، لأنه بحر خضم كثير العطاء.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها شجاع بن محمد الطائي:
5 رَيَّانَ لَو قَذَفَ الَّذِي أسقَيتَهُ
لَجَرَى مِن المُهجاتِ بَحرٌ مزبدُ
يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: سيفك ريان، فلو قاء الذي سقيته لجرى منه بحر ذو زبد، يريد قد أكثرت به القتل.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
6 وهمُ البحرُ ذو الغوارب إلاَّ
أنهُ ثار عندَ بحركَ آلا
يقول العكبري عن هذا البيت: الغوارب: أعالي الموج, والآل: السراب وقيل: الآل في آخر النهار، والسراب في أوله, والمعنى: أنهم (الروم) كالبحر ذي الموج لتكاثف جمعهم، وتكاثر عددهم، إلا أنهم صاروا عند قوتك وعديدك، وبأسك وجيوشك، كالآل الذي يتخيل ولايصدق، ويتمثل ولايتحقق، ففروا هاربين، وولوا عنك مدبرين.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
7 وإذا طما البحرُ المحيط فقل لهُ
دع ذافإنّكَ عاجزٌ عن حالهِ
يقول العكبري عن هذا البيت: طما البحر طمواً، إذا ارتفع, والمعنى: قل للبحر إذا ارتفع: دع ماتظهره، فكرم الممدوح يغمرك، ومواهبه تحقرك، وأنت عاجز عن رتبته، ومقصر عن جلالته ورفعته.
لقد تطرق شاعرنا أبوالطيب المتنبي في أبياته السبعة السابقة إلى أحوال البحار المختلفة، ومايحدث فيها من تقلبات تبعاً لأحوال كونية معينة.
فهو يقول لنا في بيته الأول: بأن أسلم الأوقات للإنسان لركوب البحر والإبحار فيه أو الغوص فيه للبحث عن الدر هو عندما يكون هادئاً وساكناً، ويجب تجنبه والابتعاد عنه عندما يكون هائجاً مائجاً ومتحركاً ومزبداً، لأنه عندما يكون في مثل هذه الحالة، كما ذكر الشاعر في بيته الثاني يصير مهلكاً قاتلاً.
وهنا نتبين أن شاعرنا الفذ قد استخدم ظواهر البحار المختلفة في إسداء مدحه لسيف الدولة، وشبهه بحالة البحر في السكون والهيجان والغضب, إضافة لذلك فإشارة الشاعر لزبد البحر تعطينا دلالة واضحة أن هذا الزبد لايتكون إلا في حالة هيجان البحر وثورته وعنف أمواجه.
ويقول الشاعر في بيته الثالث: إن سيف الدولة يشبه البدر بما يحدث له من تغيرات مختلفة أثناء مسيره في عرض السماء، وكذلك فسيف الدولة يشبه في أفعاله مايحدث للبحر من تغيرات,,, ونلاحظ هنا أن شاعرنا العربي الكبير قد ربط بين البدر والبحر في مدحه لأميره سيف الدولة، وهذا الربط له دلالة علمية واضحة بالنسبة لنا وهي مايحدثه القمر لماء البحار من تغيرات مختلفة من مد وجزر وغير ذلك خلال دورته الشهرية.
ويقول شاعرنا المتنبي في بيته الرابع: بأن كافور الأخشيدي يشبه البحر الكثير الماء في زخره وشدته وتراكم أمواجه وهنا فقد استخدم الشاعر أيضاً حالات البحر في مدح كافور.
ويقول في بيته الخامس: إن سيف شجاع الطائي لو قذف (قاء) الذي أسقاه به من دماء الأعداء لصار كأنه بحر مزبد, وهنا استخدم الشاعر المتنبي أيضاً حالات البحر في مدح ممدوحه.
وشبه الشاعر في بيته السادس أعداء سيف الدولة بالسراب الذي يرى ولاحقيقة له رغم أنهم كانوا بكثرتهم وجموعهم كأمواج البحر المتلاطمة، كذلك فقد أشار أبوالطيب في بيته السابع إلى هيجان البحار وتلاطم مياهها وارتفاعها وانخفاضها إلا أنها لاتقارن مع أفعال وأعمال سيف الدولة.
وقال الشاعر أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها علي بن منصور الحاجب:
كالبحر يَقذفُ للقريب جَواهراً
جوداً ويبعث للبعيد سَحَائبا
يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: أن عطاءه للقريب والبعيد، ونفعه قد عمّ الناس، فمن أتاه أخذ، ومن غاب بعث له.
يدل بيت شاعرنا هذا دلالة علمية بينة، وهي تكوين الجواهر وبعض الأحجار الكريمة في البحار مثل اللؤلؤ والمرجان، فاللؤلؤ يتكون داخل نوع من الحيوانات الرخوية ذات الأصداف التي لها مصراعان، وهذه الحيوانات لها المقدرة على اجتذاب حبيبات مادة كربونات الكالسيوم إلى داخل الصدفة، وسرعان مايفرز الحيوان مواد معينة للدفاع عن جسمه ضد هذه الأجسام الغريبة، وهكذا تتراكم هذه المواد المفرزة فوق مادة كربونات الكالسيوم حيث يتم تدريجياً بناء (تكون) اللؤلؤة على هيئة طبقات بعضها فوق بعض, وقد يقذف البحر بهذه الأصداف بعد موتها إلى الشاطئ أو إلى القاع، ومن ثم يمكن الحصول على اللؤلؤ منها, ومن الجواهر الأخرى الموجودة في البحار المرجان ، وهو عبارة عن حيوان بحري يتفرع كفروع الأشجار، ويوجد منه الأحمر، والأبيض، والأصفر، والأسود، ويستخدم المرجان في صناعة الجواهر المنقوشة والخواتم والأقراط والمسابح, ومن أحدث الجواهر التي تم اكتشافها في أعماق البحار والمحيطات هي درنات بعض المعادن الاقتصادية مثل المنجنيز والنحاس والنيكل وغيرها (عوض، 1406ه 1986م), وكما يدل بيت شاعرنا أيضاً على ظاهرة علمية أخرى، وهي ما تسمى بدورة المياه في الطبيعة، فمن المعروف علمياً أن مياه الأمطار التي تتكون منها السيول والانهار والبحيرات والمياه الجوفية، جاءت نتيجة لتبخر مياه البحار والمحيطات، وغيرها من المسطحات المائية تحت تأثير أشعة الشمس وحرارتها، ومن ثم تجمع بخار الماء على هيئة تراكمات من السحب والغيوم التي تنقلها الرياح بعيداً، وعند اصطدامها بجبهة هوائية باردة سرعان ماتتكثف هذه السحب وتتحول إلى أمطار تسقط بإذن الله على مناطق بعيدة عن البحار والمحيطات,,.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1 وَوَجهُ البحر يُعرفُ من بَعيدٍ
إذا يسجو فَكيفَ إذا يَموجُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: يسجو: يسكن ويدوم, وقوله: والليل إذا سجى أي إذا دام وسكن, ومنه البحر الساجي, والمعنى: يريد أن البحر يعرف إذا كان ساكناً، فكيف إذا ماج وتحرك، وضرب هذا له (لسيف الدولة) مثلاً لما رآه وهو يدير رمحه، فجعله كالبحر الهائج.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
2 ويخشى عُبابُ البحرِ وَهوَ مكانَهُ
فكيف بِمن يغشَى البلادَ إذا عبَّا
يقول العكبري عن هذا البيت: عباب البحر: هو شدة أمواجه وتراكمها، ومنه سمي الفرس الشديد الجري، والنهر الشديد الجريان: يعبوبا, والمعنى: يقول: البحر مخوف وهو مكانه، فكيف بمن إذا ماج وتحرك عمّ البلاد، وقوله عبّ : اي جرى وتدفق.
ومن الظواهر الحسية الأخرى للبحر أن الإنسان يشعر ويحس من مسافات بعيدة بأنه باتجاه البحر، وكلما قرب الإنسان منه اتضحت هذه الظاهرة, وهنا نلاحظ أن الشاعر قد أشار إلى هذه الظاهرة في بيته الأول من البيتين السابقين، فهو يقول بأن الإنسان يشعر بالبحر عندما يكون ساكناً وراكداً فما بالك به إذا كان مضطرباً هائجاً، ومتلاطمة أمواجه, وفي البيت الآخر تطرق أبو الطيب أيضاً إلى خوف الإنسان من البحر وهو في مكانه، فكيف به إذا ماج وهاج، وشبه سيف الدولة بهذه الظاهرة للبحر, وهنا فقد تطرق شاعرنا إلى حقيقة بينة وجلية بالنسبة لعلاقة الإنسان بالبحار.
فالمعروف بأن كل إنسان تقريباً قبل أن يركب البحر في سفينة، أو باخرة، أو مركب,,, يلحقه بعض الخوف والرهبة مع عدم معرفته بماذا سيحدث له لأن هذا في علم الغيب.
ونحن في وقتنا الحاضر نعرف ونسمع عن حوادث وكوارث تحدث للسفن ، وناقلات النفط، والغواصات,, وغيرها,,, وكذلك مايحدث لبعض المدن الساحلية من كوارث وخسائر مادية وبشرية نتيجة للأعاصير والفيضانات وماينتج عنها من اضطرابات وهيجان واندفاع شديد للمياه مصحوباً برياح قوية سريعة مدمرة.
من المعروف علمياً أن التضاريس المختلفة على وجه الكرة الأرضية ليست دائمة، وإنما تتغير عبر الزمن, وهي تشكلت في الحقيقة من عوامل متعددة دائمة الحدوث, فهناك عوامل باطنية، وهي عبارة عن الحركات التي تحدث في باطن الأرض مثل عمليات الرفع والهبوط والخسف والضغط والشد والقص، إضافة إلى الزلازل والبراكين, والحركات التي تحدث في باطن الأرض إما أن تكون بطيئة مثل حركة الجبال والقارات، أو سريعة مثل الزلازل والبراكين.
ومن المعروف أن الزلازل تصيب القشرة الأرضية، وهي عبارة عن هزات أرضية, وتكون النقطة التي يبدأ منها الزلزال موجودة على عمق عدة كيلومترات تحت سطح الأرض, وتسمى هذه النقطة أو المنطقة بالبؤرة الزلزالية، ومنها تنتشر الموجات الزلزالية في جميع الاتجاهات تقريباً, أما البراكين فهي تحدث نتيجة لأن باطن الأرض يحتفظ بدرجات حرارة عالية جداً، ولهذا السبب فإن أجزاء من الصخور المكونة لباطن الأرض تكون في حالة سائلة تعرف بالصهير، وهو عبارة عن صخور ذائبة ممتزجة بالأبخرة والغازات المختلفة, وحيث إن هذا الصهير يقع تحت ضغط ثقل القشرة الأرضية فإنه يظل في حالة فوران مكتوم, وعندما يجد الصهير منطقة ضعف في القشرة الأرضية يفور خلالها مندفعاً إلى الأعلى قاذفاً بالحمم والصخور والأتربة إلى السماء, وبعد ذلك تعود المقذوفات البركانية إلى سطح الأرض ويتراكم بعضها فوق بعض مكونة حبلاً بركانياً مخروطي الشكل.
قال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يرثي بها محمد بن اسحاق التنوخي:
والشّمسُ في كبد السماء مريضةٌ
والارض واجفة تكادُ تمورُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الواجفة كالراجفة، وهي المُطربة, وتمور: تذهب وتجيء, والمعنى: يقول: إن الشمس لما ضعف نورها بموت هذا الرجل فكأنها مريضة، والأرض مضطربة لموته، فهي تذهب وتجيء، وهذا كله تعظيماً لحاله.
لقد أشار أو لمح أبو الطيب في بيته هذا إلى الاضطرابات الباطنية للأرض، فالأرض كادت تتحرك جيئة وذهاباً لموت التنوخي.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها الحسين بن اسحاق التنوخي:
بِمَن تقشعرّ الأرضُ خوفاً إذا مَشى
عليها وترتج الجبال الشواهق
يقول العكبري عن هذا البيت: الاقشعرار: انتفاش الشعر على بدن الرجل إذا خاف, والارتجاج: الاضطراب, والشواهق: جمع شاهق، وهو العالي, والمعنى: يريد: أنه تهابه الأرض إذا مشى عليها، وتضطرب الجبال العالية، وتتحرك خوفاً منه.
لقد أشار الشاعر في بيته هذا الى إمكانية اقشعرار الأرض وارتجاج وحركة الجبال.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
شَرفٌ ينطَحُ النّجومَ بروقي
هِ وعزّ يقَلقِلُ الأجبالا
يقول العكبري عن هذا البيت: الروق: القرن والقلقلة: الحركة, وجمع جبل: جبال وأجبال, والمعنى: يقول: شرفك يزاحم النجوم في العلو، وعزك أثبت من الجبال وأرسى, يريد أن شرفك (شرف سيف الدولة) يبلغ الثريا بعلوه، ويزاحمها بجلالة قدره، ويناطحها بقرنيه، واستعار لشرفه قرنين، لأنها في الحيوان من أسباب القوة، ودواعي الإقدام والمنعة، مع عزّ يقلقل الجبال من هيبته، وتضطرب إعظاماً لرفعته, وقال الواحدي: يريد أن سلطانه ينفذ في كل شيء، حتى لو أراد أن يزيل الجبال لحركها.
لقد تطرق أبو الطيب المتنبي في بيته هذا أيضاً إلى إمكانية تحرك الجبال, وقال المتنبي في قصيدة قالها في صباه:
1 ومازلت طوداً لاتزول مناكبي
إلى أن بدت للضّيم في زلازِلُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الطود: الجبل العظيم, ومناكبه: أعاليه, والضيم: الذل, والزلازل: جمع زلزلة, والمعنى: يريد: أنه لم يزل ثابتاً ذاوقاً طوداً لايحركه شيء حتى ظلم، فلم يصبر على الظلم، فكأنه حرك لدفع الضيم عنه وهذا كله يعظم شأن نفسه.
وقال الشاعر في قصيدةيمدح بها عبدالرحمن بن المبارك الأنطاكي:
2 فخذا ماءَ رِجلِه وانضحا في المُ
دن تأمَن بوائق الزَّلزالِ
يقول العكبري عن هذا البيت: نضح الماء: إذا رشه على الأرض أوالثوب والمدن جمع مدينة، وسميت مدينة، لأن أهلها يقيمون بها، ومنه مدن بالمكان: أقام به والبوائق: جمع بائقة، وهي الداهية, والمعنى: يخاطب صاحبيه، يقول لهما: خذا ماء رِجل هذا الممدوح فرُشّاه في البلاد فإنها تأمن الزلزلة، لأنه رجل صالح من أهل الصلاح.
شبه أبو الطيب في بيته الأول نفسه بالجبل لأن الجبال ثابتة شامخة راسية ولكن عندما ضيم وذل تبدلت حاله، وهذا مايحدث لبعض الجبال من خلخلة وتحطم وتكسر بتأثير الزلازل حالة حدوثها, وبمعنى آخر أي أنه لابد من حدوث سبب معين ليحدث التبدل, أما في البيت الآخر فقد أشار الشاعر بصورة مباشرة إلى الزلزال، وماقد يحدثه من خراب ودمار للمدن,, ولهذا طلب من صاحبيه أن يرشا ماء رجل الأنطاكي في المدن لتأمن غوائل وشرور الزلازل.
إضافة لما تقدم فإن هناك عوامل خارجية لها تأثيرها على التضاريس الأرضية ومن هذه العوامل مايطلق عليه التجوية والتي تعنى تفكك الصخور وتحولها إلى أجزاء صغيرة نتيجة لعوامل ميكانيكية وكيميائية وغيرها، فالإنسان مثلاً يقوم بتكسير وتفتيت الصخور لأغراضه المختلفة، وجذور الأشجار التي تخترق الصخور تفتتها أيضاً، إضافة لذلك فإن الماء يقوم بدوره في ذلك، حيث يتجمد بين الصخور ويزداد حجمه فيفتتها، فضلاً عماتقوم به مياه الأمطار والرياح,, و ,, من دور مهم في عملية التفتيت.
وقد لخص لنا شاعرنا أبو الطيب المتنبي مايمكن أن نقوله عن التجوية بعواملها المختلفة في بيت واحد من شعره، حيث قال في قصيدة يرثي بها فاتك الرومي:
تتخلفُ الآثار عن أصحابها
حِيناً ويدركُها الفَناء فَتتبِعُ
يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يريد: أن الآثار، وهي البنيان، تبقى بعد أربابها، لتدل على تمكنهم وقوتهم وسطوتهم، ثم ينالها بعدهم مانالهم من الفناء، وأن الخراب سيدركها فتذهب الآثار كما ذهب المؤثرون لها، فهذه عادة الدنيا بأهلها، والمعهود من تصاريفها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.