ورد في لسان العرب لابن منظور: الدنيا: نقيض الآخرة. والدنيا ايضا: اسم لهذه الحياة لبعد الآخرة عنها، والسماء الدنيا: لقربها من ساكني الأرض. قال أبو الطيب في قصيدة يهجو بها كافورا: 1 - ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبُها أني بما أنا باكٍ منه محسودُ! يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يريد ان الشعراء يحسدونه على كافور، وهو باك بما يلقى من كافور ونجله، يريد انه يشكو ما لقيه من عجائب الدهر وتصاريفه، ثم قال أعجبُها ما أنا فيه وذلك اني محسود بما اشكوه وابكيه، وهذا من قول الحكيم: استبصار العقلاء ضد لتمني الجهلاء، فالجاهل يحسد العاقل على ما يبكيه، فالحال التي يبكي العاقل منها يحسده الجاهل عليها. وقد نظمه ابوالطيب فأحسن، ومنه: رب مغبوط بدواء هو داؤه. وقال المتنبي في قصيدة يهجو بها كافورا: 2 أما في هذه الدنيا كريمُ تزول به عن القلب الهمومُ 3 أما في هذه الدنيا مكان يُسَرّ بأهله الجار المقيمُ 4 تشابهت البهائم والعبدَّى علينا والموالي والصميمُ 5 وما أدري أذا داءٌ حديثٌ أصاب الناس أم داء قديم؟ يقول العكبري في شرح البيت الثاني: المعنى: يقول: ان الدنيا قد خلت من الكرام، فما فيها كريم يأنس به فاضل، فيزول همه به. ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يريد: ان جميع الامكنة قد عمها اللؤم والجور، فليس في الدنيا مكان اهله يحفظون الجار، فيسر بجوارهم جارهم. ويقول العكبري عن البيت الرابع: العبدى: العبيد. والصميم: الصريح الخالص النسب، والموالي: جمع مولى، وهو يقع على اشياء كثيرة والمعنى: يقول: قد عم الجهل العبيد والأحرار، حتى اشبهوا البهائم في الجهل، وملك المملوكون، والتبس الصريح النسب بالموالي، يعني الاحرار بالموالي. يقول: إنما يستحق الملك الكرام، فإذا صار الى اللئام ظنوا كراما. ويقول العكبري عن البيت الخامس: المعنى: يقول: ما ادري هذا الذي اصاب الناس من تملك العبيد واللئام عليهم، احدث الآن، ام هو قديم، كان فيما تقدم من قبلنا؟ لقد جمع شاعرنا الفذ في ابياته الخمسة السابقة بين الزمان والمكان والإنسان وحالته النفسية. يقول في بيته الاول: أتعجب من حال الدنيا، فأنا ابكى وأتحسر بما القاه من كافور ونجله، وغيري من الشعراء يحسدونني على ملازمتي لكافور، ولم يعلموا بمصيبتي ويتساءل ابو الطيب في بيته الثاني عن وجود انسان في هذه الدنيا يركن اليه وتزول وتطرد به الهموم عن النفس. ويوضح لنا هذا التساءل بصورة جلية مدى ما كان يعانيه من هموم طارح هذا السؤال، وهو شاعرنا، ولذلك فقد اشار صاحبنا المتنبي الى الدنيا، ونحن بدورنا نتساءل عما كان يقصده بالدنيا في هذا البيت، هل يقصد بها الشاعر الزمان بشموليته، ام بزمانه هو، او الدهر بمفهومه العام، ام الكون بأسره، أم بالناس ومكانه الذي هو فيه؟.. ويجيبنا الشاعر عن تساؤلنا في بيته الثالث حيث يقول: هل يمكن وجود مكان في هذه الدنيا، يسر بأهله الجار المقيم؟ فربط هنا بين الزمان والمكان والإنسان. ويضيف الشاعر في شكواه في بيته الرابع: ان الناس اختلطت عليه، لم يعد يقدر ان يفرق بين عبيدها واحرارها، وعقالها وجهالها، فأصبح الناس في ذلك المكان متماثلين كالبهائم التي لا عقل لها ولا ادراك. ويتساءل شاعرنا مرة اخرى في بيته الخامس عن سبب ما رآه وشاهده في الناس في جميع اصقاع الدنيا، هل هو حديث جديد، ام انه داء متأصل بالإنسان منذ القدم؟ وفي هذا التساؤل ربط الشاعر بين الزمان الماضي والزمن الحاضر. وقال ابوالطيب في قصيدة وقد تشكى سيف الدولة من دُمّل: 1 وكيف تُعِلّك الدنيا بشيء وأنت بعلة الدنيا طبيب يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: إنك طبيب الدنيا تنفي الظلم عن أهلها، والعيوب والفساد، وتقوّم المعوج، فكيف تُعِلّك وأنت طبيبها من علتها. وقال المتنبي في قصيدة يرثى بها أخت سيف الدولة: 2 ومن تفكَّر في الدنيا ومُهجَتِه أقامه الفكر بين العجز والتعب يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى« يريد بإقامة الفكر بين العجز والتعب» انه يتعب تارة في طلب الدنيا، وتارة يترك طلبها خوفا على مهجته، فلا ينفك عن طلب وعجز فالطالب في تعب، والقاعد عاجز، وعجزه للخوف على مهجته، فلو تيقن سلامة مهجته ما قعد عن الطلب. وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها الحسين بن اسحاق التنوخي: 3 تخلَّى من الدنيا ليُنْسَى فما خلَتْ مغاربُها من ذكره والمشارقُ يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: انه زهد في الدنيا )التنوخي( وانقطع عن أهلها، فلم يزده ذلك إلا جلالة وقدراً، لأنه لم يخل من ذكره أهل الشرق والغرب، لأن صنائعه ومعروفه فيهم. أشار شاعرنا ابوالطيب المتنبي في أبياته الثلاثة السابقة الى الدنيا وعلاقتها بالانسان، وضرب لنا في ابياته ثلاثة امثلة تتعلق بحياة الانسان في دنياه. يقول الشاعر في بيته الاول وهو مستغرب، كيف ان الدنيا، أعلَّت وأمرضت سيف ا لدولة وهو العليم البصير الطبيب بأمراض وأدواء اهل الدنيا، لانه هو الذي يعز ويرفع ويهين ويذل من يشاء من الناس لأنه يمتلك القوة والسلطة والمنعة، والمال، والناس تسير على أمره وهواه. ويوضح شاعرنا المتنبي في بيته الثاني ان من يفكر ويتفكر بالدنيا واحوالها يصيبه التعب والعجز، فأحوال الدنيا هي احوال الناس، كل يسعى لما يريد، وما يمليه عليه عقله وتفكيره في دنياه حياته فقد يتعب ويقعد شخص عن مسعاه في دنياه لمعرفته بنهايته في هذه الدنيا، وأن الحياة الى زوال، وغيره من الناس لا يمل ولا يكل عن مسعاه، مع معرفته بالنهاية. ويشير الشاعر في بيته الثالث الى ممدوحه التنوخي ويقول عنه: لقد زهد التنوخي في الدنيا وعافها واحتجب عن اهلها، ومع هذا فذكره لايزال في أفواه الناس. من أبيات الشاعر الثلاثة السابقة نتبين ان شاعرنا ربط بين تطلعات الانسان وبين الدنيا، وهو في الحقيقة يقصد علاقة الانسان بأخيه الانسان، وان كل إنسان يختلف عن الآخر في طموحاته وأفعاله ودنياه، فهناك الحاكم والمحكوم، والسيد والعبد، والقاتل والمقتول، والطامح والعاجز، وهكذا دواليك فالدنيا التي عناها شاعرنا في أبياته السابقة هم الناس في مختلف صورهم وأفعالهم وطموحاتهم، وعجزهم وكللهم ومللهم. وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة: 1 ومن صَحِب الدنيا طويلا تقلّبتْ على عينه حتى يرى صدقها كذبا 2 وكيف الْتِذَاذي بالاصائل والضُّحى إذا لم يعد ذاك النسيمُ الذي هَبَّا يقول العكبري عن البيت الاول: المعني: يقول: من طالت محبته للدنيا، أي ظاهرها وباطنها، وأمامه وخلفها، وتقلبت على عينه، لا يخفى عليه منها شيء، عرف أن صدقها كذب، وأنها غرور وأماني، ويجوز ان يكون هذا التقلب بأحوالها، من المسرة والمضرة، والشدة، والرخاء. وهذا البيت فيه حكمة، وهو قول الحكيم: ليس تزداد حركات الفلك إلا تُحِيل الكائنات عن حقائقها. ويقول العكبري عن البيت الثاني: الأصائل: جمع أصيل، وهو آخر النهار. والضحى وهو حين تشرق الشمس. والمعنى: يقول: كيف أَلْتَذُّ بهذه الاوقات اذا لم استنشق ذلك النسيم الذي كنت اجده من قبل، يريد نسيم الحبيب. ويجوز ان يكون نسيم ايام الشباب والوصال. وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة. 3 فذى الدار أخونُ من مومسٍ وأخدع من كِفَّة الحابلِ 4 تفانى الرجال على حبها وما يحصُلون على طائل يقول العكبري عن البيت الثالث: المومس والمومسة: المرأة الفاجرة. والحابل: الصائد ذو الحبالة، وهي الشرك، والكفة بالكسر: كل مستدير، وبالضم: كل مستطيل، وبالفتح: المرة الواحدة من كففته، وقولهم: لقيته كَفَّة كَفَّة، بفتح الكاف، أي استقبلته مواجهة. والمعنى: يقول: هذه الدنيا، وهي المشار اليها بالدار، فاجرة خوانة لأصحابها، هي كل يوم عند واحد، وهي أخدع من حبالة الصائد. والمعني: أنها أخون من الفاجرة، التي تخلف من وثق بها، وأخدع من الحبالة التي تصرع من اطمأن إليها. ويقول العكبري عن البيت الرابع: الطائل: ما كان له قدر، من طال الشيء: اذا علاه، ومنه الطَّوْل، بفتح الطاء. والمعنى: يقول: الرجال قد تفانوا على حبها، ولم يحصلوا من أمرها على طائل، لأنها تأخذ ما تعطيه، وتهدم ما تبنيه، وتمر بعد حلاوتها، وتعوج بعد استقامتها، فمن عرفها رفضها، ومن قدرها هجرها. وقال ابن الشجري الشريف هبة الله الحسني: ما عمل في ذم الدنيا مثل هذين البيتين، وصدق في قوله. وبلغني )العكبري( ان رسول الإفرنج دخل على الملك الناصر، صلاح الدين يوسف بن أيوب، فذكر هذين البيتين، فقال: وحق ديني ما في الإنجيل موعظة أبلغ من هذه الموعظة. وقال الشاعر في قصيدة وقد بلغه ان قوما نعوه في مجلس سيف الدولة: 5 مما أضرَّ بأهل العشق أنهمُ هَوُوا وما عرفوا الدنيا وما فطِنُوا 6 تفنى عيونهمُ دمعا وأنفسهم في إثر كل قبيح وجهُه حسَنُ يقول العكبري في شرح البيت الخامس: المعني: يريد بأهل العشق: الذين عشقوا الدنيا ولم يعرفوا أنها غدارة، ولا توافق محبا، ولا تساعده، ولا تبقى عليه، وأنهم لو فطنوا لما تعبوا في جمع مالا يبقى لهم. وهو من قول الحكيم: العشق ضرورة داخلة على النفس، والعاشق جاهل بتلك الضرورة. ويقول العكبري عن البيت السادس: المعنى: يقول: هم يبكون حتى تهلك عيونهم بالبكاء، وانفسهم بالحزن على كل مستحسن في الظاهر، قبيح عند الاختبار. يريد بذلك الدنيا. تطرق ابو الطيب المتنبي في أبياته الستة السابقة الى الدنيا وما تفعله بالانسان، وما يحدث فيها من مصائب وتقلبات وتبدلات.. يقول ابو الطيب في بيته الأول: ان من صاحب وعاشر وتعامل مع الدنيا، وجد انها لا تستقر على حال من الاحوال، ويرى صدقها كذبا. ونلاحظ في هذا البيت ومن إشارة الشاعر الى مصاحبة الدنيا، انه الشاعر ربما كان يقصد دنياه الخاصة به، وهو زمانه الذي كان يعيش فيه، ويتفاعل به مع الناس الذين من حوله. ويقول المتنبي في بيته الثاني: كيف أرتاح وأَلْتذّ وأتمتع بأوقات النهار اللطيفة وهي عند انحدار الشمس للمغيب وعند شروقها في الصباح، وهي من الطف اوقات النهار وأحسنها اذا انا لم أمتّع نفسي باستنشاق وشم نسيم الحبيب. ونلاحظ هنا في هذا البيت ان شاعرنا قد حدد وقت زمان بعينه، اعتمادا على حركة الأرض حول الشمس بذكره للاصيل والضحى، فهذه الاوقات جزء من النهار، اضافة لذلك فقد اشار شاعرنا الى لطف هذين الوقتين، ومع هذا فهو لم يتمكن من التمتع ببرودة ولطافة هواء هذين الوقتين بسبب ما كان يحسه داخل نفسه من ألم وحزن لما كان يفتقده، وهذا من تقلبات الدنيا. ويقول ابوالطيب في بيته الثالث: الدنيا خسيسة دنيئة حقيرة تشبه المرأة الفاجرة التي كل ساعة في أحضان فاجر مثلها والذي ستخونه وتقع في أحضان غيره، ومع هذا وكما يقول في بيته الرابع فإن الرجال يتصارعون ويتقاتلون من اجل هذه المرأة الفاجرة كل يتصور أنها ستدوم له. وهنا فقد اشار شاعر العربية الفذ الى ما يفعله الناس فيما بينهم من تناحر وتسلط وكره وحقد.. كل يتخيل أنه خالد مخلد في دنياه. ويقول الشاعر في بيته الخامس والسادس: ان الناس الذين يحبون الدنيا ويعشقونها، ويبكون عليها، لم يفطنوا لغدرها وخداعها، ولذلك ستفنى عيونهم وأنفسهم لأنهم يجرون خلف أمر ظاهره حسن وواقعه قبيح قذر. لقد خلط ابو الطيب في أبياته السابقة بين الزمان والانسان والافعال، فقد حدد لنا أوقاتاً قصيرة من الزمان معينه الأصائل والضحى ومغط لنا الزمان اللامحدد بالدنيا، وربط كل هذا بالحوادث والصراعات.. و..و التي تمر على بني البشر في حياتهم، وشبه الدنيا ومحبة الناس لها ببائعة الهوى التي تأخذ ولا تعطي.. اضافة لذلك فقد تطرق شاعرنا الى علاقة الزمن بالحالة النفسية للانسان. ورد في لسان العرب لابن منظور: القرن: الأمة تأتي بعد الأمة، قيل: مدته عشر سنين، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاثون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون وهو مقدار التوسط في اعمار اهل الزمان، وفي النهاية: أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران، فكأنه المقدار الذي يقترن فيه اهل ذلك الزمان في أعمارهم واحوالهم وقيل: القرن مائة سنة، وجمعه قرون. والقرن من الناس: أهل زمان واحد. قال ابوالطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها مساور بن محمد الرومي: هذا الذي خلت القرونُ وذكرُه وحديثُه في كُتْبها مشروحُ يقول العكبري في شرح هذا البيت: خلت: مضت، كما قال الله تعالى: )قد خلت من قبلكم سنن(. والقرون: جمع قرن من الناس، وقيل: القرن: ما بين الأربعين الى الخمسين، وقيل: المئة. والمعنى: أن الكتب مشحونة بذكر الكرم ونعت الكرام، وهو المعني بذلك، اذ الحقيقة منها له فذكره إذن في الكتب مشروح.لقد اشار ابو الطيب في بيته هذا الى القرن، وهو عدد من السنين مختلف في تحديده، ومع هذا فهو زمن محدد معروف من الناحية العددية التي وضعها الانسان ذاته. إضافة لذلك فقد بين الشاعر الى ان هناك قرونا قد خلت ومضت وفاتت، وهذا يعني ان هناك قرونا ماضية ولاحقة، وهذه القرون مكونة للزمان..! يتبع