كلما سمعت أغنيتي (ست الحبايب ياحبيبة) لفايزة أحمد و(يامو ياست الحبايب يامو) لدريد لحام، أشعر بقشعريرة غريبة تسري في جسدي ويزداد تدفق الدم في عروقي، وأشعر بأن لي جناحين كبيرين يدفعاني للطيران مثل النسور في فضاءات واسعة وكبيرة ، ولا أستطيع أن أمنع منافذ دموعي من الانهمار بضراوة ويتملكني هاجس يأخذني إلى بحيرات مزروعة من نجم وفراش وبجع وخيول ذات ألوان بهية وشجر متنوع له أحجام وأغصان يانعة ورطبة.. ..أمي ذات اليد الحانية مثل القطن الناعم أو ريش عصفور وهي تتحسس وجهي وتمسح عني قلق الأيام وتعبها، أمي قنديل متوهج ينير دربي في الليالي العتمة ويلحفني بالدفء وبالعاطفة ويزيل عني برد الأيام وخوفها وأعاصيرها القوية، أمي لها نهارات جميلة ومساءات جميلة وشمس ونجوم مشعة كبريق من ذهب ولها روح رائعة مفعمة برائحة السعادة وبرائحة الجنة وتملك ابتسامة مضيئة تحلق بي فوق براري شاسعة من السرور والحبور وأجد فيها كل شيء، الأمل الورود والربيع وطائر السنونو وطائر الشحرور والبلابل والظلال والألوان والقصيدة العذبة والأغنية الراقية والطمأنينة وهي عندي حقل أزهار مفروش على وجهي وصدري ينعشني بروائح العطور الزاهية، أمي لها حنان متقد وغفوة حالمة ووميض أمل يشع عطرا ورقة، أمي غيمة حبلى بالمطر وجدول ماء وسرب عصافير وحلم من ندى ل(شيله) أمي المعطرة بعطر الأعشاب المخلوطة رائحة خاصة تملا أنفاسي بعبق الانبهار ول(حنائها) المنقوشة على يديها الطاهرتين انبهار حاد يهيج في رائحة بيتنا القديم في ذلك الحي الخشبي العتيق، ول(عباءتها) الطويلة ظلال يقيني لهيب الرياح وحده الحر ول(عصابتها) الملفوفة على رأسها الطاهر زي خاص يوقد في الانتشاء والشموخ ول(خبزها) الرقيق على الصاج طعم آخر ول(سوالفها) سرد قصصي معجون من تعب وكد وكدح وحكمة وفصول تجربة أبطالها تضاريس ومناخ وبشر ورحيل مر وعوز مقيت، أغنيتي (ياست الحبايب يا حبيبة) و(يامو) لو أستطيع أو لدي القدرة لجعلت من هذه الأغنيتين نشيدا لكل طلبة المدارس في طابورهم الصباحي ينشدانه بعد النشيد الوطني تقديرا واحتراما وإجلالا وتعظيما وتقديسا وتذللا وخفض جناح لدور الأم وتميزها وتفردها من لحظة الحمل الطويل مرورا بالمخاض المؤلم والولادة العسيرة والسهر المتواصل والتعب المضني والإرضاع والتغذية والخوف والتفكير والقلق، وحتى أن يصبح الطفل رجلا يدافع تيارات الحياة القاسية ويعيش في غاباتها الموحشة.