في إحدى المجلات التربوية.. طرح السؤال على القراء.. ما هي أكثر أهم عشرة أشياء تعلمتها في حياتك وأين؟؟ ويا للدهشة وكما قد نتوقع.. تعلَّم القراء أكثر المهارات أهمية لهم في الشارع وفي القطار وفي ساحة المدرسة وجاء الفصل الدراسي ربما في المرتبة الثامنة!! هل يعقل؟؟ هل نستطيع أن نتخيل حجم الميزانيات الهائلة التي تخصصها الدولة للتعليم العام ثم لهذه الجامعات العملاقة، وكم من الجهد والترتيبات والقوانين التي تضعها المجتمعات ككل لتدعم مدارسها دون أن نوفق في تحقيق شرط التعلُّم؟! أنظر فقط لكل هذه الدعايات الضخمة عن الأنفاق وعن البرامج التطويرية المقترحة الآن لبعض المدارس وحمي التكنولوجيا والكراسي البحثية ووو.. ولكن هل وقف أحد وسأل. ماذا يحدث فعلا داخل القاعات الدراسية سواء في التعليم العام أو الجامعة؟؟ لا أحد يبدو معنيا فعلا بالهدف الأساسي من وجودنا في مؤسسات التعليم وانشغل الجميع معلمون وإداريون ومفتشون ومسؤولون كبار بإنهاء إجراءات التعلُّم من مناهج وامتحانات وأوراق وإحصاءات، ثم الحديث عنها بفرح وخيلاء للصحافة المحلية دون أن نعرف فعلا هل تحقق شرط التعلم أم لا؟ حينما يقف المعلم بكل اجتهاده وأدواته ونحن نفترض أنه يمتلك الخلفية العلمية الحديثة حول ما يعلم، كما أن لديه من الأدوات التعليمية المساعدة ما يمكنه من أداء دوره، كما أن عدد الطلاب لا بأس به بالنسبة لبلد نام كبلدنا، إضافة إلى مناسبة حجم الفصل وإمكاناته مع متطلبات التعلم.. كل هذه الفرضيات الذهبية (وهو ما قد لا يكون واقعيا).. ومع ذلك وحين نرى أن الطلاب فعلا مشغولون داخل الفصل.. فهل ما يحدث هو التعلم أم هو التمدرس وادعاء التعلم؟؟ لا أحتاج طبعا إلى وضعكم في منطقة مظلمة.. لكن طلابنا وطالباتنا خريجي التعلم العام هم الأضعف في المهارات الرياضية واللغوية (واللغوية هنا لا نعني بها الإنجليزية)، حيث تجري القياسات عادة (أقصد التعرف على مستوى القدرات اللغوية من خلال نتائج الامتحانات الدولية)، بل أتحدث هنا عن العربية كلغة أُم أساسية لا غنى لإنسان عنها، فهي لغة القرآن وهو يسمعها في مسجده ومدرسته كل يوم، كما أنها وسيلته الأساسية للتعبير والتواصل مع من حوله وهو ما لا يحدث للأسف، فمراهقونا ممن هم في سن الثالثة عشرة فما فوق عاجزون عن كتابة خطاب طلب عمل مثلا لشركة بلغة عربية سليمة ومقنعة، كما قد لا يعجزون عن إيراد مثل واحد للتدليل على ما يريدون إقناعنا به وهم حتما لا يتمكنون من استدعاء أو التعرف على دلالة بيت شعري هذا فقط ما تعلق بالمهارات الأساسية، ويصبح الأمر أكثر سوءا حين نتحدث عن مهارات التفكير الناقد والاستقلالية وتحقيق شروط النمو المتكامل عقليا ووجدانيا وجسمانيا لهذا المتعلم. التعلم لم يكن في يوم من الأيام أولوية بالنسبة للمؤسسات التعليمية.. انهم يتحدثون عن دور المعلم وعن الحرب لتغيير المناهج وعن الإدارة وعن كل هذه الميزانيات الأسطورية (9 بلايين) لتدريب المعلمين (التي ومع الأزمة المالية الراهنة لابد أنها تقلصت للنصف أو الربع (وقد حاولت وزارة التعليم مشكورة طمأنة الرأي العام حين سئلت حول هذه البلايين قبل فترة التي أقرت منذ ثلاث سنوات)، وقد أشارت الوزارة الى أن النقود في أيد آمنة فلنطمئن وأنها لم تستخدم إلا القليل جدا منها!! لماذا أيتها الوزارة أبقيت كل هذه البلايين كل هذه السنوات دون استخدام (ألم تملك الوزارة البرامج؟ أم لم يتم إقرار المنافسين أم أن دراسة العروض المقدمة قد استغرق كل هذا الوقت؟!). وإذا كانت الوزارة لا تمتلك فلسفة تربوية لتبدأ مشوارها في خلق التغيير، كما انه من الواضح أنها لا تمتلك مهارات التفكير الابتكاري لاستخدام بلايينها التي أقرتها الدولة لتحسين وجه هذا التعليم البائت فماذا نتوقع من الطلبة؟؟ كيف يمكن التفريق بين التمدرس والتعلُّم؟؟ سؤال أساسي يجب أن نحاول الإجابة عنه حتى نراجع فرضياتنا الأساسية حول ما يحدث في هذه الأبنية المدرسية كل يوم.. كلنا جميعا ودون استثناء نرسل أبناءنا للمدرسة فلماذا لا يتمكنون من قراءة الجريدة ولماذا لا يتمكنون من الحديث والتعبير عن مشاعرهم بلغة عربية سليمة ولماذا يفشلون في فك رموز حسابات بسيطة قد يثيرها برنامج تلفزيوني أو تفسير بعض الظواهر الطبيعية أو الجغرافية؟؟ أتذكر في إحدى لجان المقابلات للوظائف لخريجات الجامعة لم تتمكن الكثيرات من المتقدمات من التفريق بين معنى وزير التعليم ووزير التعليم العالي، أو ماذا نعني بالانتخابات الأمريكية أو إعراب جملة مشتقة من كتاب القواعد للسنة الرابعة الابتدائية، والحجة أننا درسنا هالأشياء من زمان أما مواد التخصص فلا أحد يتذكرها، فقد درست المواد للامتحان وللحصول على الشهادة وقد حدث لكن ماذا تعلمن ولماذا وجدن في المؤسسة أصلا؟؟ لم يطرح السؤال ولم يحدث التعلم وتم توثيق شهادات التخرج الرمزية لشابات وشبان يطرقون أبواب المستقبل دون تملك الحد الأدنى من مهارات النضج العاطفي والشخصي والمعرفي. السؤال: من هو الطالب المتعلم ومن هو المعلم الذي يبقى في حالة التعلم؟؟ الطالب المتعلم هو ذلك الذي يتمتع بلوثة العشق للمعرفة، هو ذلك الذي تصحبه الرغبة في المعرفة والاستزادة كإحدى سمات الشخصية مع محاولة التعرف على التفاصيل دون الغرق فيها، وهو ذلك القادر على الوصول إلى النتائج بدل السقوط في مستنقع العمليات (تعلم مادة الامتحان بدل الاستعداد لعبور الامتحان مثلا). المتعلم الحقيقي هو ذلك الذي يأخذ الآخرين في حساباته أفرادا ومجتمعا.. هو من يفكر بالنتائج.. هو من يرتب الأحداث بشكل عقلي ويطالب بتفسيرات منطقية لما يحدث حوله.. هو ذلك الذي يمكنه تعلُّمه من رؤية الصورة الكبرى ووضع الأمور في إطارها دون تقليل أو مبالغة، وهو ذلك الإيجابي الذي يدفع الآخرين من حوله للبحث عن مزيد من المعرفة.. هو ذلك الذي يساعده تعلمه على ممارسة المزيد من الحرية العقلية والفكرية.. فهل ترون أن مؤسساتنا التعليمية سواء على مستوى التعليم العام أو الجامعي معنية بأمر كهذا؟ وهل حدث أن عرفتم طالبا أو أستاذا يمتلك هذه المواصفات حتى نسأله أين استطاع أن يفر من طوق التمدرس الذي يلتف حول أعناقنا ويخنق محاولتنا للتعلم؟؟