لنتوقف قليلاً ونعترف أن بعض أوجه البيروقراطية والجمود الإداري هما أحد أسباب تخلفنا الحضاري، وأحد أهم أسباب تأخر الحلول لبعض مشاكلنا الحالية.. فالبيروقراطية في شكلها الحالي قد تخنق النجاح وتحجب معرفة أسباب الفشل الإداري، والذي لا يمكن فك ألغازه إذا أصبح المكتب حقاً أبدياً لشخص محدد، وإذا لم يتم تحريك المياه الراكدة تحت هذا المكتب ثم السماح لرياح التغيير أن تقلعه من جذوره إذا أثبت فشله في إيجاد الحلول لمشاكل المواطنين المزمنة.. البيروقراطية تتطور مع تراكم السنين إلى وضع التبلد الإداري والشلل العملي، مما يجعلها عائقاً للتقدم وميداناً فسيحاً للفساد الإداري.. تضخم في القرارات غير القابلة للتنفيذ، وفقر شديد في المعلومات، وعادة لا يكترث البيروقراطي (المزمن) إلى أي نقد يوجه لسوء إدارته وسوء تنظيمها، أو إلى النتائج السلبية بسبب تنظيماته وآلياته الشديدة التعقيد، فهو غير مضطر إلى الإجابة، ولا يجبره النظام البيروقراطي بالرد على التساؤلات المشروعة، لكن إذا تلقى تساؤلاً عن النقد الموجه له من المكتب أعلاه، فإنه ينتفض بحثاً عن إجابة... البيروقراطية داء لابد منه، لكن لابد من (ميكانيزم) حيوية تقلل من مساوئه، و تحد من استغلاله.. تنحصر أهم إنجازات الجمود البيروقراطي في قدرته على تضخم أجهزته الإدارية وازدياد المكاتب والموظفين حول المكتب البيروقراطي الرئيسي، ويقابلها في الجهة الأخرى تدنٍ للإنتاج في الأداء الوظيفي والمهني، والسبب كثرة القرارات غير المجدية والاجتماعات الجانبية التي تنحصر جدواها فقط في إشغال الجو العام بالهامش على حساب المضمون.. سيكون من الصعب مثلاً أن نحصر عدد المقالات والأطروحات عن مشاكل المياه في بلادنا، فالموضوع تطرق له الكتَّاب والمتخصصون والمنظمات العالمية، وأشاروا إلى أن الأزمة قد تكون يوماً ما قاتلة في مستقبل الأيام، والسبب التأخر في اتخاذ القرارات الحاسمة في هذا المكتب البيروقراطي؛ إذ لم يحدث أي تغيير في خطط تنمية هذا المصدر الضروري للحياة، وبسبب ذلك سنظل كل صيف نعيد نشر نفس المقالات عن هذه الظاهرة السنوية في مختلف مدن المملكة حتى نصل إلى مرحلة غير قابلة للإصلاح،..خلاصة القول أننا إلى الآن نصرف قليلا في مجالات الاستثمار في هذا القطاع الحيوي، وإلى الآن لم ندرك أن الحل الوحيد هو في الدخول في مجال صناعة تقنية تحلية المياه من أوسع أبوابه، وأنه من غير المعقول أن يعتمد أكبر بلد مستهلك للمياه المحلاة على الغير في صناعة تكنولوجيا تحلية المياه.. الشاهد في هذه القضية أن الإعلام بمختلف مشاربه، والنشرات الدورية العلمية في هذا الشأن لم تنجح في إقناع المكتب البيروقراطي أن يستجيب لمطالب المجتمع وللحلول التي تم طرحها من خلال قنوات الإعلام.. فهو ليس مجبراً على الاستجابة لهذه المطالب، وله أن يسترخي ويترك الأمور تسير على مجراها إلى أن يشاء الله الفرج، أو تحدث الكارثة، كما حدث صيف هذا العام في معظم مناطق المملكة.. وفي ميدان آخر قاد التغيير في المكتب البيروقراطي إلى انتفاضة غير مسبوقة، كما هو الحال في جامعة الملك سعود، فالجامعة تحولت في وقت قياسي إلى خلية من العمل ومحاولات النهوض مرة أخرى من أثار بيروقراطية خلت، لكن يجب ألا نستعجل الحكم على هذه الحركة الحيوية في المكتب البيروقراطي الجامعي، وعلينا أن ننتظر النتائج العظيمة في مستقبل الأيام لأن تجاربنا السابقة مع بدايات أي إدارة جديدة متشابهة، ودائماً ما تبدأ بحركة غير عادية وتصريحات وعمل دؤوب في بدء دورة عمل المكتب الجديد لكن ما تلبث هذه الحركة إلا أن تركد إلى السكون أو الجمود مرة أخرى إذا تحقق لها العرفان والتقدير مبكراً من المجتمع.. وإذا حدث ودخلت مرحلة البيات البيروقراطي لن نستطيع إعادة الحياة إلى المكتب البيروقراطي مرة أخرى وسننتظر تصنيفاً جديداً للجامعات من الخارج لكي يقرع جرس الإنذار من جديد.. لسنا في هذه العجالة في صدد إصدار الأحكام على المؤسسات العامة وعلى إنتاجيتها وقدرتها على حل الإشكاليات التي يوجهها المجتمع، ولا بد من التأكيد أن حجم الإنجاز في بعض القطاعات البيروقراطية متطور، ويسابق معدلات نفس الإنجاز في الدول المتقدمة، وأن حالة الجمود أو الإنجاز البيروقراطي لها علاقة بالكفاءات البشرية التي تدير المكتب، لكن على الأقل نريد أن نصل إلى قناعة مفادها أن المكتب البيروقراطي الذي يصدر الأخطاء ويصر على إعادة إنتاجها لن يملك القدرة على تصحيح أخطائه في المستقبل، ولا بد من إيجاد ميكانيزم إدارية لمعالجة بؤر إنتاج الأخطاء الإدارية في المجتمع، ثم التخلص منها، وإستبدالها بقدرات تملك القدرة على تجاوز أزمات المجتمع وتحدياته.. خير مثال على ذلك ما يحدث في سوق الأسهم السعودي من انهيارات تاريخية وغير مسبوقة، وما أعنيه أنه لا يمكن إصلاح ما يحدث من سقوط متتالٍ بنفس الإدارة التي عجزت عن إيقاف مسلسل إنتاج الأخطاء في هذا القطاع الحيوي، ولكي ندرك أن ما يحدث هو بالفعل سلسلة أخطاء إدارية مستمرة يجب أن نلقي نظرة متأنية على سوق الكويت المالي، والذي تعرض لسقوط معقول (15%) مقارنة بالسوق السعودي للأسهم (75%)، ولم أجد تفسيرا لهذا التباين العميق إلا باختلاف منهجية الإدارة و فلسفة المراقبة والإشراف بين السوق السعودي والكويتي للأوراق المالية.