المقامة البيروقراطية: تخيل ان عيسى بن هشام، حل ضيفا على هذه الأيام، فحط به بساط الريح، عند مكتب يفرخ الروتين في جنباته، وتنسج البيروقراطية بيوتا على عتباته. ألا توحي مثل هذه الحال لبديع الزمان، بمقامة تتناقلها الركبان، فيؤلف على لسان عيسى بن هشام، مثل هذا الكلام: حدثنا عيسى بن هشام قال: طرحتني الرياح مطارحها العويصة، فوجدتني أمام زحمة وهيصة، قلت: لعل هذا التدافع على وليمة، فنفوز بالغنيمة، بعد طول تنقل وترحال، بين مدن الجنوب والشمال. فقررت أن أزاحم الجموع، بالمرفق والكوع، لأصد غائلة الجوع. حتى رأيت شخصا خارجا من بين البشر، وكأن عليه وعثاء السفر، فسألته: ما الخبر؟ وبعد أن استرد أنفاسه، وتحسس رأسه وكرياسه، قال: إنني مراجع، فلا تقلب علي المواجع. وإلا فكيف تمكث طيلة أسبوعين، معاملة لايستغرق إنجازها ساعتين؟ وكيف يطول بها الانتظار، فلا تجد من ينفض عنها الغبار. لقد تلطخت بالتأشيرات والأختام، وتنقلت بين الوحدات والأقسام. يدققها فلان، ويراجعها علان، هذا يمارس عليها اختصاصه، وذاك يضيف لها قصاصة. وهاهي مع غيرها تنام، على طاولة ذلك الهمام، بين أضابير تصل إلى الرأس، ويختلط فيها عباس ودباس، دون أن تحركها يد الموظف المحترم، الذي فتك به السأم، فطلق الورقة والقلم. إنها همة عجيبة، وآلية بطيئة رتيبة. بيروقراطية معتقة مزمنة، لاتجدي معها الميكنة. قد تعطل فيها ترس السرعة، ولم يذرف عليه أحد دمعة. فكأن سبته خميس، وكأن أحده جمعة. قال عيسى بن هشام: ولأني لست من هذا الزمان، ولاناقة لي فيه ولاحصان، فإنني لم أفهم فحوى تلك الرطانة، ولا كلماتها الطنانة، فتركت الرجل وشانه، وأطلقت لبساط الريح عنانه. بعد أن قررت الانسحاب، راضيا من الغنيمة بالإياب. @ @ @ شرح المقامة البيروقراطية: لاتوحي مفردة (بيروقراطية) للسامع بشيء من الثقة أو الطمأنينة، فقد ارتبط معناها منذ القدم بالروتين والتعقيد، كما ارتبط بالبطء والتسويف والزحمة، وكثرة الأوراق والتأشيرات، والأختام والتوقيعات، وتضخم الدوسيهات. علاوة على مقاومة التغيير، وترهل الأضابير، وامتداد الطوابير، وبالوجوه العابسة، والرؤوس اليابسة، والشروط التعجيزية، والتلويح باللوائح، وراجعنا بكرة، وبعد بكرة، ولهذا يأتي محاصرة هذا الأخطبوط من التعقيدات المكتبية على رأس أولويات رجال الإصلاح الإداري. مع أن البيروقراطية، ليست سوى نظام مكتبي، وجد لتنظيم سير العمل ومتابعته، وتحديد قنوات الاتصال، وتعيين حدود الإشراف ، وتوزيع المهام والأدوار والمسؤوليات، وفقا لبرامج معلومة، وخطط مرسومة، وصولا إلى تحقيق أهداف وغايات المؤسسة. إن مايشوه سمعة هذه المفردة المسكينة المفترى عليها، هو ارتباطها بعدم القدرة على التخطيط، وعدم الكفاءة في التنفيذ. المشكلة إذن، ليست في النظم أو اللوائح، بل في من (يلوحها) أثناء التشريع، ومن (يخشبها) أثناء التنفيذ. مشكلة اللوائح والتعليمات هي أن تبقى جامدة متكلسة، لا تجد من يصقلها أو ينفض عنها غبار الزمن، لتواكب المتغيرات، وتراعي المستجدات. فإذا ما صادفت تلك اللوائح موظفا تنفيذيا محروما من نعمة المبادرة والابتكار، ضاعف هذا الموظف من جمودها وبلادتها. وإذا ما صادفت موظفا آخر يتمترس وراءها ابتغاء السلطة، ضاعف من صلابتها وتسلطها. وإذا ما صادفت موظفا غير قادر على فك شفرة لغتها، ضاعف من غموضها والتباسها. ومهما تكن فعالية أي تنظيم فإنه لايعمل بامتياز خارج بيئته التقنية والاجتماعية. هنالك خصائص مشتركة أو خطوط عامة توحد بين جميع البيروقراطيات، الا أنها تتمايز وتختلف وتتشكل تبعا لتمايز واختلاف البيئات. لذلك يبدو من المناسب، وقبل إصلاح لوائح العمل وأنظمته، تعزيز المهارات وإصلاح العقليات التي تتعامل مع تلك النظم واللوائح. "الإنسان أولا" هو عنوان أي إصلاح إداري يراد له النجاح، فالإمكانيات المادية والتقنية وحدها لاتكفي. ذلك أن هنالك من يتعامل مع آخر منجزات التقنية، بعقلية القرون الغابرة. ومع أنه لايمكن الدفاع عن (سيريالية) بعض اللوائح والأنظمة، إلا أنها قد لاتكون سببا رئيسا من أسباب الإعاقة. إن المعرفة والاستعداد الشخصي والحماسة في العمل عناصر مهمة في معادلة الأداء. إن تعامل الأفراد مع تلك اللوائح والتعليمات يختلف باختلاف قدراتهم، ومؤهلاتهم، وأمزجتهم، وحالاتهم النفسية. كما أن الاختلاف والتمايز بين الأفراد له تأثير بارز على السلوك الوظيفي سلبا أو إيجابا، وهو ينعكس، في نهاية المطاف على أداء المؤسسة بأكملها. لهذا نجد هذه الآلية المكتبية فتية دافقة بالحياة هنا، وعجوزا مترهلة هناك. مع أن الإمكانيات المادية والتقنية واحدة. بل إننا نصادف ضمن المؤسسة الواحدة تفاوتا في الأداء بين موظف وآخر. نتيجة لتفاوت النظر إلى هذه اللوائح والنظم. فقد تصادف أحيانا وفي مؤسسة واحدة موظفا لاتفارق الابتسامة شفتيه، يجيب على استفسار هذا، ويعبئ نموذجا لذاك، ويرد على مكالمات الهاتف، تجده يؤدي أكثر من عمل واحد في وقت واحد بمرونة وأريحية وحيوية وكفاءة منقطعة النظير. وفي مقابل هذا النموذج، قد تصادف موظفا آخر عابسا، أبطأ من سلحفاة، وأكسل من ضفدع. ينظر إليك نظرة استعلاء، ويكلمك من طرف أنفه، وكأنه لايقدم لك خدمة، بل يمارس عليك سلطة. وهذا الموظف غير الهمام، هو سبب تلك الهيصة والزحام، التي شهدها عيسى بن هشام.