من أساطير الرواية الشعبية النجدية ومن مراجعها ومصادرها الثقات الأثبات الأمناء العدول، الذين لم يعرف عنهم إلاّ الصدق في الرواية والأمانة في النقل وتحري الصحيح من المنقول من الموروث الشعبي، كان آية من آيات الإتقان والدقة، بعيد كل البعد عن التزوير والتدليس، ينقل مثل ما سمع، يؤدي الرواية طبق الأصل كما يقال مثل النسخة الأصلية، شهد له أقرانه ومعاصروه من الرواة والشعراء بسعة علمه بالشعر الشعبي القديم منه البعيد والقريب وما عاصره، إنه علامة الشعر الشعبي عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي، وهذه الشخصية التراثية الشعبية قد أسهمت في مكتبة الأدب الشعبي في رصد وكتابة الشعر الشعبي من خلال مخطوطات، ففي العام 1424ه أصدر د. عبدالله الربيعي كتاباً عن والده بعنوان "صناجة عنيزة"، وهو دراسة سيرة حياة والده ودراسة أدبية عن شعره، وقد كشف عن جوانب كانت مغيبة عن حياة هذا الراوية العملاق، وما كان الباحثون والقراء يعرفون هذا الأمور عن سيرة شخصيتنا، وقد استفدت من هذا الكتاب في هذه السطور. وُلد عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي عام 1309ه في عنيزة، نشأ في هذه البلدة الشهيرة في القصيم، وتعلم بها القراءة والكتابة وعاش تلك الظروف المعيشية في نجد، وعاصر جميع الأحداث والوقائع في القصيم، خاصةً بطولات الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-، فشخصيتنا شاهد عصر، ووثّق نصوص شعرية شعبية ترصد هذه الأحداث والوقائع، سواء ما كان في عنيزة أو في القصيم، فقد عاصر معركة الطرفية ومعركة البكيرية ومعركة الشنانة وروضة مهنا وما تلاها من ظروف سياسية، ولا شك لو أن عبدالرحمن الربيعي كتب ودوّن تاريخاً نجدياً كما فعل معاصره إبراهيم القاضي والمؤرخ المشهور محمد العلي العبيّد والمؤرخ الخنيني والمؤرخ الأديب التاجر عبدالله بن محمد البسام -مؤلف تحفة المشتاق- لأضاف لنا تاريخاً يراه ويشاهده مؤرخ رأي العين؛ لأن المؤرخ إذا كتب ما يشاهده أو عاصره يكون توثيق النص دقيق، ويعكس ما يكتب، غير المعاصر الذي يكتب بواسطة عن رواة أو مراجع مكتوبة أو مخطوطة، لكن الربيعي انكب على تدوين الشعر الشعبي وعلى نظم القصائد. سهل المعاني وذكر د.عبدالله الربيعي في مقدمة كتابه (صناجة عنيزة) عن والده قائلاً: كان جدي يعتمد على والدي عبدالرحمن بالنظر إلى كونه الابن القريب إليه، واصفاً هوايات وقراءة والده بأنه كان يميل إلى قراءة القرآن دائماً وكتاب رياض الصالحين، ذاكراً أنه أكثر النظر في دواوين العرب الجاهليين مثل عنترة وامرئ القيس، وشعراء الإسلام مثل عمر بن أبي ربيعة والحطيئة والمتنبي، وكذلك اطلع على شعراء العصر كالرصافي من العراق ومحمد الاسمر من مصر والشاعر محمد بن عثيمين، وقرأ كذلك في كتب الأدب مثل كتاب (الأغاني)، و(جواهر الأدب)، إضافةً إلى هذه الكتب فقد كان يطالع كتب التاريخ. هذه هي حصيلته الأدبية والثقافية التي أثرت في شاعرية وصقلت موهبته الشاعرية وأصبح سهل المعاني، جيد سبك العبارات والألفاظ، فكانت رصيد وزاد استخدامه في نظم القوافي والقصائد الشعرية، خاصةً القصائد الغزلية. ولعبدالرحمن الربيعي قصيدة تقرأ بالفصحى والعامية ومنها: أول كلامي بالولي مبدائي منشئ الغمام وباعث الموتاء رب كريم ما رجينا غيره رزاق دود الصخرة الصماء شاعر أم راوية؟ وفي كتاب د.عبدالله الربيعي عن والده طرح سؤالاً على معاصري والده هل الربيعي شاعر أم رواية؟، فأجاب بعضهم أن عبدالرحمن الربيعي شاعر بالدرجة الأولى، جمع شعر غيره للشعر، لا لغرض آخر، وهذا رأي الأديب والرواية عبدالرحمن البطحي، معللاً رأيه بأن الراوي يحفظ شعر غيره والربيعي لم يحفظ شعره عن ظهر قلب، فكيف يشعر غيره، فهو جامع ومدون وليس راوية، والبعض قال أن الربيعي اشتهر كراوية أكثر من شهرته كشاعر، بدليل أنه غدا مستودع للشعر الشعبي في الجزيرة العربية والخليج وبادية العراق إلخ، وهذا الرأي يقوله الشاعر -صديق شخصيتنا- عبدالله بن حسن الملقب بالخال. وذكر إبراهيم اليوسف -كما أورد د.الربيعي في كتابه عن والده- أن شخصيتنا شاعر وراوية، حيث قال: الشاعر والراوي الكبير عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي -رحمه الله- من بيت علم وأدب، راو كبير، وشاعر قدير، له ديوان يضم بعضاً من أشعار، له نفس طويل في سبك القصيدة، ولا يمل من الكتابة، حيث كتب بخطه الجميل أكثر من خمسين ديوان من الشعر، وهو الرواي الوحيد لشعر سليمان بن شريم وعبدالله بن دويرج، بالإضافة إلى الكثير من الشعراء مثل محمد عبدالله العوني، وشعراء أهل عنيزة، وقد نقل عن روايته الكثير من المؤلفين مثل محمد سعيد كمال في كتابه (الأزهار النادية من أشعار البادية)، ومثل مسعود الرشيدي؛ لأنه لا يبخل على كل من يطلب منه أي قصيدة. ووصف الباحث، بل العالم أبو عبدالرحمن بن عقيل شخصيتنا عبدالرحمن الربيعي قائلاً: إنه شاعر مطبوع وراوية موثوق به ترك ثروة مبثوثة بين الناس ومتاحة للمهتمين. رقي الأسلوب وكان عبدالرحمن الربيعي -رحمه الله- اجتماعي من الطراز الأول، وعلى درجة جيدة من اللطف والتعامل مع الناس، فهو دمث الأخلاق، ويلبي دعوات أهالي عنيزة الذين يحبون مجالسته والسمر معه في تلك الليالي، فكان يطربهم بقصائده وما يرويه من قصائد قديمة أو حديثة، وكان أكثر جلوسه في مزرعة صديقه عبدالرحمن البطحي، ويروي د.الربيعي موقف يدل دلالة على قوة حافظة شخصيتنا، وتدل كذلك على رقي أسلوبه، حيث حضر ضيف في تلك الأمسية، وقرأ قصيدة، وقال أنه من نظم هذه القصيدة، فتعجب بعض الحاضرين، مستنكراً أنها له، ولما انصرف تكلم شخصيتنا قائلاً: إن هذه القصيدة لشاعر من شعراء القرن الثالث عشر الهجري، ولم يحرج المضيف بهذا التصحيح، وكان في القصائد التي ينشدها يلحنها بما يطلق عليه الديونة، وهو صوت محبب في نجد وعذب، خاصةً لمن وهبه الله صوتاً جميلاً. ثقة وأمانة لماذا دوّن عبدالرحمن الربيعي الشعر الشعبي؟، وأجاب د.عبدالله الربيعي قائلاً: أستطيع أن أُلخص بواعث التدوين عند الربيعي بالآتي؛ تعود الشاعر على حفظ شعره كتابة لا عن ظهر قلب، بعكس أبيه الذي كان يحفظ شعر محمد العبدالله القاضي غيباً، كذلك حنين المغتربين من أهل عنيزة إلى بلدتهم، ورغبتهم في قراءة نتاج شعرائها، جعل الوالد يحرص على تدوين نسخ يبعثها إلى عشاق هذا الفن مثل المنصور والعبدلي في الكويت والبسام في البحرين وغيرهم، إضافةً إلى إقبال المهتمين على ما خطه الوالد من قصائد بسبب جمال خطه، وثقتهم بأمانته، جعله يمضي قدما في مهمته التدوينية، وثمة مؤلفات نشرت داخل المملكة وخارجها اعتمدت على نسخ شاعرنا، إلى جانب أنه حفزته الأمسيات التي كان يحييها شاعرنا في منازل المهتمين على جمع القصائد الأكثر طلباً في دفاتر متوسطة الحجم يختار منها ما يناسب الحضور، كذلك ثمة مسألة إخراجية فنية، تكمن في نسخه الردود التي تصله من أصدقائه الشعراء بخطهم؛ لأنه لم يتعود جمع الرسائل في ملف، ولم يكن يثق إلاّ بسجلاته الشعرية المرقمة، ومع تسليمنا بأهمية النقاط السابقة إلاّ أن عشق الوالد لهذا الفن ومتعته وهو يمارس تدوينه وسعادته حين يحقق رغبة المهتمين وشعوره بأهمية ثروته وإحساسه بتفرده في هذا المجال، وتقديره لجهود المبدعين السابقين، كل ذلك شجعه على التفرغ لهذه الهواية. اطلاع واستزادة وحول جهوده في تدوين الشعر الشعبي، قال الأديب عبدالله بن خميس في كتابه (أهازيج الحرب): من شعراء عنيزة ومن رواتها، وأخلصهم لفنه، أعطى الكثير في شتى فنون الشعر، وأسهم في كل جانب من جوانبه، وقال عنه أيضاً صديقه ورفيق دربه الأديب عبدالرحمن بن إبراهيم البطحي في مقدمته لديوان صديقه عبدالرحمن الربيعي: إنه شيخ شعرائنا الشعبيين المعاصرين، وأحد دهانقة الشعر الشعبي في مدينة عنيزة ومرجعها في الأدب الشعبي الحديث منه والقديم، ولا غرابة في أن تراه يتربع على هذا المنصب اللائق في دائرة الأدب الشعبي، ويرجع البطحي إلى الأسباب التي دفعت الراوية الربيعي إلى حب الشعر وقرضه وروايته إلى عامل الوراثة، حيث أن والد الربيعي عبدالله كان رواية الشاعر المشهور محمد العبدالله القاضي، وقد كف بصره والابن عبدالرحمن لا يزال في ريعان صباه لم يتجاوز الثامنة من عمره فكان عبدالرحمن يقود والده إلى مجالس الأدب والشعر في منتديات عنيزة، ومع هذا التكرار والمعاودة في مجالس السمر نشأت فيه حب الرواية وسماع الأخبار وقصص البادية والحاضرة، ويقول أيضاً البطحي: لم يكتف بما يسمع الربيعي في مجالس والده بل لجأ الى الاطلاع والاستزادة قراءةً وسمعاً وتدويناً، وظل يتابع ذلك برغبة ونهم زائدين، دون أن يشغله عن هوايته أي شاغل، ولم يزل في تدوينه أشعار المتقدمين والمتأخرين حتى عد من غير مبالغة أهم مرجع الشعر الشعبي، لكثرة ما تضمه مكتبته من الأحداث المدونة والقصص والأشعار الشعبية -انتهى كلام البطحي-. صيرفي حادق ويقول د.عبدالله بن عبدالرحمن الربيعي: إن والده بدأ ينظم القصيد وهو في سن العشرين، مضيفاً أن والده حينما كان يريد تدوين القصائد التي وصلته عن طريق المراسلة أو الرواة كان هو بنفسه هو الذي يضع مداد أقلامه من أعشاب، بحيث يصعب محوها رغم مرور السنين، لذلك تجد أن مخطوطات الربيعي -رحمه الله- رغم عوامل الزمن وكثرة التصوير لا تزال بحالة لا بأس بها، وقد دوّن أكثر من 30 مخطوطة شعرية ومعظمها محفوظ لدى مركز ابن صالح الثقافي، مشيراً د.عبدالله إلى أن هناك مخطوطة شعرية سماها والده «المحرول»، وكان هذا السفر يضم موسوعة شعرية ضخمة ووضع الربيعي ثقله وجهده كله على مدى السنوات الطوال في هذه الموسوعة، وأظن أن سبب التسمية ب»المحرول» أي المقعد، فالكتاب دائماً في المنزل. ومن أشهر المخطوطات الشعرية التي دونها الراوية الربيعي مخطوطة (البحر الزاخر من شعر الأوائل والأواخر)، وهي منتشرة بين الناس، حشد فيها الربيعي كماً هائلاً من الأشعار القديمة وحتى عصره، لكن هذه المخطوطة أُدخل فيها ما لم يدونه الربيعي كما حدثني الأخ د.عبدالله الربيعي حيث قال: إنما أُدخل في هذه المخطوطات مما ليس بخطه وليس من منهج الربيعي في تدوين القصائد والأشعار؛ لأن له طريقة خاصة في بداية كتابة القصيدة ونهايتها، ومع كثرة التدوين والسماع من الرواة والقصاصين والإخباريين من الحاضرة وأهل البادية أصبح لدى الربيعي قدرة ومعرفة بالدخيل والمصنوع في القصيدة، فهو يعرف غالباً أن هذه الأبيات للشاعر نفسه أو أدخلها رواة الشاعر في القصيدة، فهو بذلك صيرفي حادق في الراوية الشعرية، وعند تصفح إحدى المخطوطات الشعرية نجد أن الربيعي لا ينسى أن يذكر المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة في بعض الأحيان كما في قصيدة المطوع عبدالرحيم أو عبدالرحمن راعي أشيقر، فقد أورد لها قصة وسبب، وإن كانت هذه القصة شبه أسطورة، لكنها مستفيضة لدى الرواة الشعبين والإخباريين من أهل نجد، ومن دقة عبدالرحمن الربيعي -رحمه الله- عندما يدون القصيدة التي وصلته أو سمعها أن يكتب تاريخ التدوين. جهد منظم وأشاد د.سعد الصويان في كتابه (الشعر النبطي ذائقة الشعب وسلطة النص) بجهود عبدالرحمن الربيعي والراوية محمد بن يحيى في جهودهما نحو تدوين الشعر النبطي قائلاً: غالبية من ينشرون دواوين الشعر النبطي يعتمدون على المخطوطات التي نسخها الشيخ عبدالرحمن الربيعي والشيخ محمد بن عبدالرحمن بن يحيى من أهالي سدير، وعلى مدى تاريخ الشعر النبطي لم يزدهر تدوينه كما ازدهر على هذين الشيخين المتعاصرين، ويعد عملهما أول جهد منظم، بجمع هذا الشعر وتدوينه وحفظه من الضياع، وقد قام الربيعي وابن يحيى -رحمهما الله- بجهود لا يستهان بها في تدوين قصائد الشعراء النبطيين، ونسخا منها مجلدات ضخمة بخط اليد، في وقت كان فيه شراء الورق وتحضير الحبر باهظ التكاليف، ناهيك عن صعوبة التنقل والاتصال بالشعراء. هذه سطور موجزة ومختصرة عن حياة وسيرة هذا الراوي الكبير عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي -رحمه الله-، وقد توفي عام 1402ه، ودفن في مسقط رأسه عنيزة. عبدالرحمن بن إبراهيم الربيعي -رحمه الله- د.عبدالله بن عبدالرحمن الربيعي عبدالله بن خميس أشاد بما قدّمه الربيعي للشعر إبراهيم اليوسف قال عن الربيعي: راو كبير وشاعر قدير الربيعي نشأ منذ صغره على حب الرواية وسماع الأخبار والقصص إعداد- صلاح الزامل