لا يكاد يمر يوم بدون أن نقرأ طرحاً يحاول الكشف عن عوامل إخفاقات العرب التنموية، واحتلالهم المؤخرة في سباق الإبداعات البشرية، فمنهم من يضعه بالكامل على كاهل الفهم الديني أو على فقر الموارد البشرية أو التقاليد أو على الأمية، أو على مخرجات التعليم، لكني أرى أن أحد أهم العوامل المؤثرة، والعامل المشترك في مختلف منتجات التخلف الحضاري في المجتمعات العربية هو الفشل الإداري والشلل البيروقراطي، فما يعانيه الوطن العربي من تراجع وانحسار هو أهم نتائج تخلفهم الإداري، وذلك بسبب إصرارهم على تضخم وترهل ودوام الهرم الإداري، والذي يصل مع تقادم الزمن إلى مرحلة الشلل التام وعدم القدرة على الحركة أو التنفس أحياناً. جاء علم الإدارة ليكون بمثابة النقلة الجديدة في حياة الإنسان في العصر الحديث، وكان الغرض من نشر تطبيقاته من أجل تنظيم التنامي غير المتناهي لمجالات العمل في المجتمع، إذ لم يعد ممكناً أن يقود رجل واحد أو حتى عدة رجال مختلف الأنشطة في الدولة الحديثة، والإدارة علم ذو حدين، فهو إما أن يكون سبباً للتقدم والنجاح، أو عاملاً هداماً لهما، وقد يكون تأثيره أكثر دماراً إذا صاحبه الجمود، ولم يتم تدوير المركز الإداري أو تغييره إذا بدت علامات الإحباط والفشل على أرقام ونتائج أعمال الشركة أو المؤسسة أو الوزارة. الإدارة الحديثة بكل ما تحمل من صفات ومهارات فردية، ومن رؤى تطويرية ومهنية هي السبيل الأوحد لتجاوز أزماتنا التي لا تنتهي.. قد يعلق الكثير جرس التخلف وحركة التقهقر إلى الخلف على الدين والمعتقدات والكتب الصفراء أو التطرف الديني والجمود وغيرها من الآثار السلبية التي لم تكن في واقع الأمر إلا نتيجة للتخلف الإداري وبطء حركة الوعي الاجتماعي. لا سبيل للخروج من أجواء الركود والغموض والتكرار إلا باتخاذ القرارات الجريئة، والعمل على تفكيك الهرم الإداري المزمن، ويأتي على رأسها وضع معايير ومقاييس لنجاح الإداري أو فشله، ثم العمل على اتخاذ القرار الجريء قبل (خراب) المؤسسة أو الشركة أو الوزارة، فالإداري الفاشل يقضي تماماً على ما تبقى من الأخضر، ويجعل من اليباس والجفاف شعاراً وهدفاً لإدارته، ليحول مكان العمل إلى قبر جماعي لمختلف النجاحات السابقة. فشل الشخصية الإدارية في التعامل الإيجابي مع الآخرين يؤدي إلى تعطيل مفاهيم الإدارة الحديثة ونفيها ثم إحلال أساليب القمع والتهديد في موضعها، ويؤدي ذلك إلى تراكم ملفات المشاكل والأزمات على المكتب الإداري، وبالتالي، يتحول الموقع الإداري إلى حصن منيع ضد الآخرين، أو إلى سرداب تتجمع فيه الأوراق والملفات السرية.. ثم تبدأ مرحلة هروب العاملين من مواجهة هذا النمط السلبي من الشخصية الإدارية، بعدما اكتشفوا أنها تتقن جيداً فن ربط وتعقيد الأمور، لا حل شؤونهم العملية. إدارة المؤسسة من السرداب أو من آخر النفق يؤدي إلى التوتر وسوء الفهم في محيط العمل، وإلى ترسيخ ثقافة الإحباط، وفرض أساليب إدارة السلطة، و تضطر إلى استخدام زوايا ضيقة للتخاطب مع الموظفين، وتهرب من مواجهة العامل أو من أسلوب حل الإشكاليات من خلال الاتصال المباشر والتفكير بصوت عالٍ. حسب وجهة نظري، ليس المؤهل الأكاديمي العامل الأهم في قصة نجاح الإداري، إذ عليه أن يكون أولا قدوة للآخرين، فلا يمكن على سبيل المثال أن يقود الإنسان الأقل إنتاجاً، والأكثر تواضعاً في قدراته الذاتية، فالمهارات والصفات الذاتية دائماً لها القول الفصل في إمكانية نجاح الإداري وفشله، وقد علمنا التاريخ القديم والحديث أن الإنسان بصفاته القيادية، وسعة أفقه، وقدرته على الاتصال، وإنصافه، ورغبته في التطور، واحترامه للآخرين هو الذي حقق النقلة التاريخية عند كثير من الأمم.