الأيام السوداء هي أحد المصطلحات التي أدخلت للقاموس الاقتصادي للدلالة على حدة الخسائر وقوة الهبوط في أسواق المال، فهذا الأسبوع صادف ذكرى سيئة عند المتداولين في أسواق المال العالمية، ففي يوم الثلاثاء الموافق 24 أكتوبر عام 1929م أي قبل حوالي 79عاماً منيت أسواق الأسهم في الولاياتالمتحدة والعالم بخسائر فادحة كانت إيذاناً بالدخول في أكبر كارثة اقتصادية عرفها التاريخ باسم (الكساد الكبير)، وسمى ذلك اليوم بيوم الثلاثاء الأسود، وفي عام 1987م أطلق اسم الاثنين الأسود على يوم التاسع عشر من أكتوبر بعد أن انهارت أسواق المال العالمية، التي بدأت موجتها من آسيا لتعصف بكل دول العالم، ويفقد يومها مؤشر (داو جونز) الأمريكي أكثر من (22%) في يوم واحد ليصبح أسوأ هبوط في يوم واحد في تاريخ هذا المؤشر العريق. ولكن في عام 2008م وتحديداً يوم الجمعة 24 أكتوبر 2008م، هبطت أسواق المال العالمية من الشرق إلى الغرب بحدة، تاركة وراءها حالة من الإحمرار على شاشات المتداولين لتدفع بالمؤشرات العالمية إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2003م.. وجاء الإغلاق الأسبوعي لأسواق العالم في الأسبوع ما قبل الأخير من شهر أكتوبر سيئاً، فقد خسرت أسواق العالم مجتمعة في الأسبوع الماضي حوالي (9%) أو ما يقارب 4 تريليونات دولار.. وكان أكبر الخاسرين أمريكا الجنوبية، حيث خسرت أسواقها المالية مجتمعة حوالي (20%) بقيادة سوق المال الأرجنتينية، التي فقدت (21%) الأسبوع الماضي، تلتها سوق المكسيك بهبوط (16.5%)، فالبرازيل ب(13.5%).. وفى القارة الآسيوية، قاد مؤشر كوسبي الكوري الجنوبي الهبوط ب(20.5%) بعد أن أظهرت نتائج GDP للربع الثالث نمو بمقدار (0.6%) وهو أضعف نمو منذ أكثر من أربع سنوات، وبذلك تقترب كوريا الجنوبية من الدخول في ركود اقتصادي هو الأول منذ الأزمة الآسيوية عام 1997م.. كما هبطت البورصة السنغافورية بحوالي (15%)، وهبط مؤشر نيكاي الياباني ب(12%) بعد هبوط شركات التصدير وعلى رأسها شركة تويوتا التي انخفضت بنسبة (6.5%) بعد أن صرح مسئولون في الشركة بأن المبيعات الفصلية أو الربعية ستنخفض لأول مرة منذ 7 سنوات، كما انخفضت شركة سوني اليابانية بأكثر من (14%)، ولم يسلم مؤشر هونغ كونغ من هبوط بلغ (13.3%)، والحال نفسه مع البورصة الهندية التي فقدت ب(13%) أيضاً. المؤشرات الأوروبية انخفضت هي الأخرى بقيادة مؤشر يورو توب 100 الذي يضم أكبر مائة شركة أوروبية، حيث فقد المؤشر حوالي (7.5%)، إلا أن الخسارة الأكبر كانت من نصيب اليونان والدانمارك وإسبانيا التي انخفضت بنسب (18.5% و13.8% و13.6%) على التوالي.. كما فقد مؤشر داكس الألماني (10.2%) ومؤشر البرتغال (11%)، في حين أن مؤشرات بلجيكاوالنمسا وسويسرا وإيطاليا خسرت حوالي (7.5%)، وفقد مؤشر فوتسي البريطاني (4.4%)، وخسر مؤشر كاك الفرنسي (4%). وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية قاد (النازداك) المؤشرات الأمريكية إلى خسارة قاسية بلغت (9.3%) وكما هو معروف فإن مؤشر (النازداك) تغلب عليه أسهم التقنية، بينما فقد مؤشر داو جونز الصناعي (5.4%)، وخسر مؤشر (ستاندرد اند بورز) الأوسع نطاقاً حوالي (7%). أما الأصعب في روسيا، حيث فقدت البورصة الروسية (17.7%) وأعلن عن إغلاق السوق المالية حتى إشعار آخر، وكانت البورصة الروسية قد فقدت أكثر من (78%) من أعلى قيمة سجلتها في منتصف شهر مايو عام 2008م الماضي، وتعانى البورصة الروسية من نزيف حاد تفاقم بعد هبوط أسعار النفط بحدة، وكما هو معلوم فان روسيا هي ثاني أكبر منتج للنفط في العالم بإنتاج يصل حوالي 9.5 مليون برميل يومياً، وكان (ستاندرد اند بورز) قد ذكر بأنه سيعيد تقييم التصنيف الائتماني لروسيا الاتحادية وأنه ربما يخفض هذا التصنيف إلى درجات اقل. وما زاد من حالة الذعر في الأسواق العالمية هو تقدم مجموعة من الدول الناشئة بطلبات قروض طارئة لصندوق النقد الدولي (IMF)، وهي دول أيسلندا وهنغاريا وأوكرانيا وباكستان، حيث تقدمت بطلبات قروض طارئة بقيمة 20 مليار دولار لمواجهة أزمة السيولة في أسواقها المالية، كما استمرت معدلات الإقراض بين البنوك في الكثير من الدول الناشئة في الارتفاع بسبب حالة القلق هذه، وكان رئيس وزراء أيسلندا قد صرح أن بلاده ستحتاج إلى مساعدات إضافية بالإضافة إلى القرض الذي تقدمت به لصندوق النقد الدولي البالغ 2 مليار دولار لمواجهة أزمة البنوك والتباطؤ الاقتصادي الذي عصف بالبلاد ووضعها على حافة الإفلاس. أما النفط فقد كان نجم هذا الأسبوع بلا منازع، فقد اتجهت أنظار الاقتصاديين والسياسيين إلى فينا عاصمة النمسا حيث تنعقد اجتماعات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، ففي اجتماعها الطارئ يوم الجمعة الماضي، وافق أعضاء المنظمة الدولية، على خفض إنتاج دول أوبك بواقع 1.5 مليون برميل يومياً أي ما يعادل (4.6%) من إنتاج أوبك البالغ 32.5 مليون برميل يومياً، علماً أن إنتاج أوبك يشكل (37%) من الإنتاج العالمي، أي أن نسبة الخفض تشكل (1.7%) من الإنتاج العالمي.. وجاء اجتماع أوبك الطارئ هذا قبل موعده المقرر في شهر نوفمبر القادم بسبب المخاوف من تأثير أزمة الائتمان العالمية والركود الاقتصادي على الطلب على النفط والخشية من استمرار هبوط الأسعار، إلا أن اجتماع أوبك لم يفلح في إيقاف الهبوط، حيث هبط النفط الخام بعد إعلان القرار إلى أكثر من (8%) ليسجل أدنى مستوى له منذ يونيو 2007م ليسجل 62.61$ لكنه عاد وقلص خسائره قبل الإغلاق وأغلق عند 64.78$ للبرميل، وكان النفط قد سجل أعلى مستوى له على الإطلاق في الحادي عشر من شهر يوليو الماضي عند 147.25$ للبرميل.. وبذلك يكون النفط قد فقد حوالي (56%) من أعلى قيمة وصلها قبل حوالي ثلاثة أشهر ونصف.. وحتى بعد خفض الإنتاج بمقدار 1.5 مليون برميل فان دول (أوبك) لا تزال تنتج أكثر من سقف الحصص المحددة سلفا والبالغة 28.8 مليون برميل يومياً. وفي أسواق المعادن لم ينجح الذهب الأصفر الأسبوع المنصرم في تحقيق مكاسب على الرغم من حالة الهلع التي سادت الأسواق، إلا أن ارتفاع الدولار بقوة ساهم في انخفاض الذهب ليغلق أسبوعه عند 730$ للأوقية بانخفاض بلغ 57.5$ أو ما يعادل (7.3%)، وكان الذهب قد سجل تراجعاً حاداً بلغت نسبته حوالي (5%) ليصل إلى 681$ للأوقية عند منتصف يوم الجمعة بتوقيت جرينتش وهو أدنى مستوى له منذ سبتمبر عام 2007م، لكنه ما لبث أن استعاض خسائره اليومية بالكامل وأضاف ارتفاعاً بلغ حوالي (2.5%) عند إغلاق يوم الجمعة مدفوعاً بعمليات شراء ضخمة قبل إغلاق الأسواق لإجازة نهاية الأسبوع وتحسباً لما قد يكون هو الأسوأ، أما الفضة فقد هبطت بشكل طفيف لتغلق عند 9.30$ للأوقية بانخفاض بلغ نصف بالمائة. أما النحاس فقد تراجع (10%) يوم الجمعة وحده، وفقد ما مجموعه (16%) هذا الأسبوع ليصل إلى أدنى مستوى له في ثلاث سنوات متأثراً بارتفاع الدولار أمام العملات الأوروبية وبحالة الركود التي يتوقع أن تصيب العالم وتؤثر في الطلب العالمي على النحاس.. كذلك لم يسلم الألومنيوم من هبوط أسبوعي حاد بلغ قرابة (20%) ليسجل رقماً قياسياً في الهبوط.. وفي أسواق الصرف.. فقد شهدت تحقيق أرقام قياسية عديدة.. فقد واصل الدولار الأمريكي تألقه بشكل ملفت، حيث ارتفع مؤشر الدولار الذي يقيس العملة الأمريكية أمام سلة مكونة من ست عملات رئيسة بمقدار (5%) ليسجل 86.42 لأعلى مستوى منذ أكتوبر عام 2006م، كما حقق الدولار الأمريكي ارتفاعاً كبيراً هذا الأسبوع أمام الدولار الأسترالي بأكثر من (10%) لأعلى مستوى منذ منتصف 2003م، وارتفع الدولار أيضاً ب(8%) أمام الجنيه الإسترليني (1.5942) لأعلى مستوى منذ منتصف عام 2003م وهو أكبر ارتفاع في أسبوع واحد للدولار أمام العملة البريطانية على الإطلاق، وجاء انخفاض الجنية الإسترليني بعد أن أظهر تقرير حكومي أن الاقتصاد البريطاني انكمش لأول مرة منذ 16 عاماً.. كما سجل الدولار ارتفاعاً لافتاً أيضاً أمام العملة الأوروبية الموحدة اليورو بواقع (6%) 1.2635 لأعلى مستوى منذ سنتين.. أما الين الياباني فقد ارتفع لأعلى مستوى له أمام الدولار منذ أكثر من 13 عاماً ليسجل مستوى 94.53.. وجاءت مكاسب الدولار الأمريكي ليس بفعل تحسن الاقتصاد الأمريكي، إنما بسبب سوء البيانات الاقتصادية التي ظهرت هذا الأسبوع في أوروبا ودلت على أن الاقتصاد الأوروبي أصبح قريباً من الدخول في مرحلة الركود الاقتصادي، وأظهرت تلك البيانات والتقارير إن النمو في منطقة اليورو بدأ بالتراجع بوتيرة هي الأسرع منذ عام 1999م، وهو ما دفع بالاقتصاديين إلى توقع قرب حدوث خفض في الفائدة على اليورو والجنيه الإسترليني مما جعل العملتين تهبطان بشدة هذا الأسبوع. حالة من الهلع والقلق تسود أسواق المال العالمية من شرقه إلى غربه، ولا يزال عام 2008م هو عام الأرقام القياسية بلا منازع.. ويبقى أمامنا محطات مهمة قليلة، هي: اجتماع مجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي نهاية شهر أكتوبر الذي يتوقع أن يخفض فيه الفائدة بمقدار نصف بالمائة لتصبح (1%). خبير اقتصادي ومحلل مالي في الأسواق العالمية