من يرى أن الفقر عيب فهو غير محق، وعلينا أن نجادله كثيراً بأمر هذه الفرية، ومن يرى أن الغنى والثراء هو كل شيء في الدنيا فهذا زعم لا أساس له في العقل، أما من يردد مقولة: أن الغني هو غني النفس فهذا هو الخيالي الحالم الذي لا ينتظر برؤه، أما من يستعيب الفقر - على نحو البداية - فإنه قد يتكئ على مقولة (الفقر كفر) وهو صادق فيما ذهب إليه جملة وتفصيلا. الذين يتجشئون تخمة لديهم الوقت والفراغ أن يهيلوا على من حولهم (مماحكة العيارة) والتندر على من هم ضعيفي الحال، ومحدودي الدخل، وأهل الكفاف والتعفف، فإنهم يرفلون بوافر من أوهام (الأنا) وأسقام الذات المتفاقمة في مجتمعنا، فقد بات الفقير ينعت ليس بفقره فقط إنما بمصطلحات أشد إيلام على نحو: المنتف، أبو نعيلة، الحافي، أبو حديدة، فهي مقولة تزعم أنها تعكس حالته التي توحي بأنه يعيش على خط الفقر منتظراً قطار السعادة، أو عربة الأمل الذي لا يأتي عادة مهما طال جلوس هذا الأخ المنتف كعصفور في أيدي أشقياء على هذا الطريق لا سيما حينما يكون متفائلاً. فالمنتَّف أو أبو نعيلة أو الحافي ربما هي مقولة اخترعتها جلسات وقفشات بعض الأثرياء المتورمين، الذين تتورم حتى حلوقهم، لتراهم يفخمون الكلام بطريقة مؤذية تشيع الكبر والغرور والتعالي، فالذي صنع أوهام هؤلاء لم يجد بدا من إضفاء شيء من الوقار المزيف لجشعهم وغناهم المتعاظم، لنراهم وقد وسموا الغني الجشع بأنه ميسور الحال، لكنك تجد أن يسر الحال في واد وتصرفاته في وادٍ آخر، إذ تتلبسه صفة الشح والبخل وحب المال والتهافت عليه بشكل مؤذٍ. قاموس المجتمع قد ينساق وراء هذه الثقافة ويرى أن (أبو نعيلة) أفضل حالاً من (الحافي) الذي يسير على الأرض بلا حذاء، وإن انتفت صفة الحفى وظل المنتعل هو الجدير بتلبس هذا الدور الذي يرتسم بشكل واضح ومخيف في زمن طغت فيه المادة على كل شيء ولم يعد للمعاني أي دور. المنتف أو الحافي أصبح في مجتمع هو السمة المميزة، أما الذي يتصور - كما أسلفنا - أن الفقر عيب فهو الذي يكيل للبسطاء التهم بأنهم وراء أمر تنغيص عيشه الرغيد، وتعكير صفو حياته المفتعل لا سيما حينما يبادرونه بتلك المواعظ التي قد تذكر بطريقة أو بأخرى بعمل المعروف، وبذل الإحسان، وإخراج الصدقة والعمل بوجوه الخير على سبيل الإسهام بمشروع خيري يوسع على الآخرين، لنراه وقد ناجزهم بهذه المقولات المتعجرفة حينما وسمهم بمقولة (دقة أبو نعيلة) وربما اتبعها بمترادفات لا تبتعد عن ذكر هذه الرؤى المتقززة من هؤلاء المحتاجين أو المعدمين الذين لم يجدوا حتى الآن أي دعم أو تكافل يقيهم غائلة الزمن، وغدر الفاقه والعوز. مقولة الخليفة الراشد عمر بن خطاب رضي الله عنه: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) تثير في الذات هواجس مخيفة وجادة، فهي أساس لما نحن فيه اليوم من نقص في الموارد وشح في الرزق وغلاء في المعيشة وقد يكون أمر الضوائق المالية التي نسمع عنها اليوم هي مشروع فقر ممكن الحدوث، ولماذا لا يكون قد وقع فعلاً طالما أن هناك من يتندر على أهل الحاجات بالحفاة والفقراء والمنتَّفين، وما إلى تلك الصفات المفزعة. [email protected]