* كانت نيويورك تبدو من الطائرة زحاماً ,, ضوئياً,, متناثراً,, يسبح في بحر من العتمة الحالكة. بدت لي المدينة الكبيرة,, الشهيرة,, عالماً,, زاخراً,, ثرياً,, بالحياة والأسرار,, والمفاجآت. أخذت,, الطائرة تقترب,, من شاطئ جزيرة مانهاتن وظهرت لنا ناطحات السحاب,, أعناقاً,, نافرة من ضوء,, مرقّط,, بالظلام. كنا نسمع عن نيويورك كثيراً، ونقرأ عنها كثيراً,. ونشاهد عنها مقتبسات ديكورية,, مثيرة في أفلام هوليود ,, التي ألهبت خيالنا,, وشحنته بالتوقعات الكبيرة. * كانت نيويورك بالنسبة لنا هي المدينة وكنا مفتونين حتى الثمالة بهذه المدينة المتحضرة المتغطرسة,, التي تعرض مفاتنها وتنثر مباهجها,, وتنادي طُلابها وتتدلل على عشاقها. كنا,, ضائقين ذرعاً,, بالصحراء الرحبة الخالية، والشوارع المقفرة,, والمدن المتنائية,. والقرى الغارقة في سباتها العميق. وكنا,, هاربين,, من حديث الربابة وصوت الساقية، وأنين الناي,, وهمسات ذؤابات رؤوس النخيل. كان صوت الشلالات الصغيرة، وضحكات الماء,, وهو ينحدر في القنوات الصغيرة وصرخات مكائن الري عند الفجر، ونداءات الرعاة لقطعانهم,, عند الغروب، وتصفيق الأمهات لأولادهن العابثين عند حلول الظلام، وشخير الاتاريك في الحواري ونباح الكلاب عند أطراف القرى,, والهجر,, ملامح مملة لعالم بدائي,, تركناه وراء ظهورنا. * قلنا,, في نفوسنا,, ونحن نشاهد نيويورك من ذلك الارتفاع الشاهق: هذه,, هي مدينة,, مدن,, القرن العشرين، فلتكن جميع المدن هكذا,, أو لتختفي,. فليست جديرة بالحياة * كنا عشاقاً,, صغاراً,, للمدن الكبيرة وكانت نيويورك بالنسبة لنا,, معشوقة كبيرة. كانت أشهر الفاتنات. وكانت أفتكهن سحراً,, وأعظمهن كيداً,, وأغمضهن سراً,. وقفنا على مشارفها,, وقفة من يتعلم الحب لأول مرة. أصابتنا,, ارتعاشة العاشق,, في حضرة الحبيب. وتملكتنا هيبة التلميذ الريفي,, أمام مدرس الحساب الأفندي. كنا نقول: مرحباً بالزحام,, والضجيج,, والهواء الملوث، والتحام الأرصفة,, وعناق ناطحات السحاب، وصخب,, الليل,, والنهار. وكنا نظن,, أن الذين يهاجمون المدن الكبيرة ,, مختلفون نفسياً,, ومتخلفون عقلياً,, حضارياً,, ومرتبكون ذهنياً. وكنا نتعجب: كيف تخفى هذه الحقيقة,, الساطعة الباهرة,, على من له,, من الابصار,, ولو أقل القليل. كيف يستطيع هجاةُ المدن الكبيرة,, أن ينكروا هذا الوجود القوي,, والجمال الاخاذ,, والحضور العظيم,, الذي يأخذ بالألباب؟ وكيف يظل أولئك السُذج,, أسرى تلك الاحنان الصحراوية,, التي يسمونها مدناً وقرى,, ومنازل؟ كنا,, يا سادتي,, أسرى,, وهم كبير,, اسمه المدينة الكبيرة . وكانت نيويورك وهمنا الأكبر ,, الذي صنعناه بأنفسنا,. ثم رأيناه,, يتلاشى,, أمام,, أعيننا كثوب,, خلا فجأةً,, من صاحبه. * مرّت علينا,, أعوام,, كثيرة,, منذ أن طرقنا لأول مرة نيويورك البوابة,, الأمريكية,, المزدحمة,, الكبيرة. خلال تلك السنوات,, عاشرنا,, هناك,, مدناً كبيرة,, كثيرة. وتحدثنا اليها، وتحاورنا معها. ورأيناها,, دون رتوش ,, ولا ديكور . رأينا تلك المدن على حقيقتها,. رأيناها في الصباح,, بعد أن زالت عنها المساحيق,, والأصباغ، وانحسرت باروكتها ,, عن جمجمتها,, الصلعاء، وسقط طقم أسنانها، وتهدلت الجلود ,, والجفون,, وفاحت رائحة الفم الابخر. وتصاعدت صنانة العرق المنتن الخبيث. * رأينا في تلك المدن,, الفقر المدقع,, والثراء الفاحش. ورأينا فيها الجوع القاتل,, والتخمة المتجشئة. وعرفنا فيها,, جمود عواطفها، وبرودة منطقها، وابتذال أخلاقها. وجدنا فيها الوحدة,, بين الزحام، والعزلة في جوف الضجيج، والجبروت بين أكناف النعومة والرخاء. صدمتنا,, تناقضاتها، وتبذبذبها وخوفها، وانهزاميتها, وانفصامها الذهني، وتمزقها العاطفي. بدت لنا,, كأرملة شمطاء,, مختلة عقلياً,, مجهدة نفسياً, عُهد إليها بتربية أبناء ضرتها الايتام. * طرحت علينا,,حقيقةُ المدينة الكبيرة أكثر من سؤال: كيف تتحول المدينة الكبيرة إلى غول كبير وهل كانت في البداية غولاً ,, صغيراً,, متربصاً,, نما,, وترعرع,, حتى أصبح ,, وحشاً كاسراً,, نتن الرائحة؟,. أم أن شيئاً ما يمس المدن بعد أن تبلغ حداً معيناً,, من النمو,, فتتغير طبيعتها,, وتتبدل شخصيتها,. وتصبح خلقاً آخر لا يمت بصلة,, الى جذوره,, وأصوله؟ * كنت ,, ولا زلت,, أسأل وأحث الزملاء,, من المختصين,, والمهتمين بالمدن ,, ألا يكتفوا بالتركيز على عمران المدن ,, بل ويعطوا بعض الاهتمام لسيكولوجيتها ,, وتاريخها العقلي,, والعاطفي. * لقد كانت صدمتنا بالمدينة الكبيرة عظيمة . وكلما جمعني,, لقاء,, برفيق,, رحلتي الأول الى نيويورك تساءلت في نفسي: كيف ذاك الحب,, أضحى خبراً,, وحديثاً,, من أحاديث الجوى؟