توفيت خالتي المجيدة فاطمة بنت صالح بن حمد العميريني - والدة المهندس عبدالله بن محمد الخميس - يوم عيد الفطر المبارك عند الساعة العاشرة مساءً تقريباً، وكأنه أريد لها أن يكون لها هذا العيد يوماً استثنائياً تسعد فيه بلقاء ربها تعالى، وقد أخذت كامل زينتها الإيمانية التي تلائم يوماً كهذا، وخالتي هذه امرأة عجيبة حقاً، وقد لامست بالكاد الستين من عمرها، تجسد الصدق في سائر أعمالها وتسربل الصبر في مراحل حياتها، مذ كانت طفلة صغيرة في (نقرة العمارين) - إحدى بلدات بريدة - فغدت حياتها إيماناً وصدقاً وصبراً، هكذا نحسبها ولا نزكي على الله أحداً، قد يكون سهلاً على المرء أن يصدق أو يصبر بعض الوقت بل قد يتيسر ذلك أكثره، ولكنه عسير جداً أن يصدق دائماً وأن يصبر أبداً، هذا أمر لا يطيقه غير العظماء من الناس. ولعل من عجائب صدقها وشريف صبرها أن أبتليت قبل وفاتها بنحو ثلاثة أشهر بمرض عضال؛ فنال من كبدها وأصابها بآلام لا تطيقها الجبال، وقد أخبرني أحد الأطباء في كندا أن تلك الآلام تعادل ما يقارب 100 ضعف ألم الضرس. ومع تكرار زياراتي لها لم أرها تتفوه بألم أو تفصح عن شكوى أو يشرد منها تأوه، بل لم تسأل عن دائها - رحمها الله - لا قليلاً ولا كثيراً... نفس عظيمة حقاً تلك التي تقاسي ألماً يفتت كبدها؛ ولم تكلّف من حولها أو تنغص على احتسابها بمجرد سؤال مشروع عن دائها، وما عساها تفعل بكثرة السؤال وقد أسلمت نفسها لبارئها، ووثقت بما عنده فلا تسأل غيره ولا تتعلق بمن سواه! وأمر آخر مدهش في حالها، أنها لم تتخل عن أدبها الجم وخلقها الرفيع وكلماتها الرشيقة حتى في شدة مرضها، فهي - مثلاً - ترد علينا بكلمة (سم)، و(سم عيوني) حين نتحدث معها أو نطالبها بأن تطعم أو تشرب مع كرهها للطعام أو الشراب حال اشتداد المرض عليها، وحين ترمق أحدنا وهو واقف بجانب سريرها كانت تطالبه بإلحاح بأن يجلس على الكرسي فلا يتعب نفسه وتقول له: (اجلس يا بيي)، (رح تلين يا وليدي - عساك موفق)، وقد كانت تبتسم في وجوهنا كلما كانت في وعيها وتدعو لنا وتطيب خواطرنا... شتان بين حالها وحالنا، حيث تجد أكثرنا يجرّد نفسه من التعامل اللطيف ويتنكر لمفردات الجمال من جراء نوبة صداع عابرة أو تموج أمعاء مؤقتة... فضلاًً عن تشكي وتأفف ومبالغة؛ حتى لم يبق إلا أن يعلن الواحد منا في الصحيفة أنه ُأصيب برشح أو زكام مصحوب بحرارة وسعال!. والوقفات التي يمكنني تسطيرها في حياة فاطمة العميريني كثيرة للغاية، ولكنني اختصرها في مناقب خمسة، مبتعداً عن المبالغة في تصوير حالها، ومركزاً على ما حظي بالإجماع لدى كل من يعرفها: أجمع كل من يعرفها - رجالاً ونساءً - على صدقها وإخلاصها، وقد رأيت رجالاً أباعد يبكون لموتها، والعجيب أن بعضهم كان معروفاً بالشدة والقسوة، ولكن صدقها ألان قسوة قلوبهم وإخلاصها أذاب شدة طباعهم، فراحوا يسكبون العبرات الحرى على فراقها في موقف جعلني مأخوذاً بعظمة تأثير الصدق! ذهبت فاطمة العميريني إلى بارئها وقد أعطتنا درساً كبيراً مفاده: أن النجاح لا يتحقق إلا في استقامة دائمة. والتأثير الحقيقي للإنسان لا يبدأ إلا حين يعاير الناس منسوب الصدق فيجدونه مرتفعاً، حينها ينقبون في المسيرة ويفتشون في الخفايا؛ فيتربون على معالي الأمور ومعاني القلوب، ويظفرون بإكسير الحياة الأبدية! رحلتِ أيتها الطاهرة... وقد كان لنا في مشهد جنازتك بل مسرح إنجازك مناسبة فريدة، حيث شهدنا إعلان افتتاح (جامعة فاطمة)... صرح عظيم للعلم الحقيقي الذي يولّد إيماناً راسخاً وصدقاً وإخلاصاً وصبراً وبراً وصلةً ورحمة وشفقةً... فطيبي نفساً فقد شرعنا في النهل من دروسك يا أم عبدالله في أروقة جامعتك الحية في وجداننا وضمائرنا... فجعل الفردوس الأعلى مثواك وسلكنا جميعاً في طريق الهادي البشير، محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه عليه.