جريمة اختطاف وذبح الصحفي السوداني محمد طه محمد أحمد رئيس تحرير صحيفة (الوفاق) أمر يجب ألا يمر على الساحة السودانية، كما يمكن أن يمر على أي ساحة أخرى، إن الأمر ليس مجرد جريمة اغتيال، ولا استهداف للكلمة وحرية الصحافة وحسب، بل الأمر أكبر من ذلك بكثير، لأن الساحة الإعلامية السودانية، لم تشهد مثل هذه الجريمة المنظمة عبر تاريخها الطويل الذي يعود إلى أربعينيات القرن الماضي، كما أن الشعب السوداني بما عرف عنه فهو شعب مسالم، وعلى قدر من الثقافة والوعي، واحترام الرأي والرأي الآخر، ليس اليوم وحسب بل منذ الأمس منذ أن كان الزعيمان الوطنيان إسماعيل الأزهري، ومحمد أحمد المحجوب يتناظران ويتقارعان بالحجج داخل قبة البرلمان، ثم يخرجان ليتناولا طعام الغداء سوياً، فضلا عن أن القضاء السوداني من أندر أجهزة القضاء في العالم نزاهة واستقلالية، حيث لم يعرف عنه انغماسه في أي ميول أو فساد، كبقية القطاعات التي طالها التلوث السياسي، واستشرى فيها الفساد، وهذا يضمن لكل من له حق أو مظلمة أن يحتكم للقضاء دون أن يضطر لرد مظلمته بأي نوع من أنواع القوة أو العنف. إذن نستبعد هنا مسألة الخلاف في الرأي كسبب لهذه الجريمة، أو الكيد السياسي أو المذهبي، لأن هناك من المنابر ما يجعل المرء يرد على أي رأي مخالف في عشر صحف بدل الصحيفة الواحدة فضلا عن مواقع الإنترنت، وغيرها من المنابر الخطابية الأخرى، قد يصل الأمر أحيانا إلى الأذى غير الجسيم مثل أن يضرب المرء تحت ظرف معين أو تعطب سيارته أو تخرب بعض ممتلكاته، أو غير ذلك، لكن أن يصل الأمر إلى اختطاف شخص لا يملك سلاحا سوى قلمه وحروفه التي في رأسه، وفي بداية المساء، ويؤخذ عنوة إلى حيث ارتكاب الجريمة الأشنع والأبشع في تاريخ السودان فهذا والله أمر يدعو للذهول وليس للحيرة فقط. لو كان الأمر مجرد انتقام، أو ثأرا فهناك الكثيرون الذين يكتبون مالا يرضي كثيرا من الناس، فلماذا لم يتم الانتقام والرد بمثل هذه الوسيلة؟ قد يكون هناك من يمثلون خطرا على بعض الجهات أكثر من الفقيد الشهيد طه، لكن يد الإرهاب طالت ضحيتها التي اختارتها بعناية وبموجب دراسة مستفيضة على ما أعتقد. إنها مشكلة كبيرة ومعضلة عصرية أن يقارع البعض الكلمة بالسكين أو السيف وبجز الرأس، بطريق أبعد ما تكون عن الإنسانية، إنه العجز بذاته أن تسكت صوتا بالسيف، أو تكسر قلماً بالساطور، أن تخاطب لغة العقل بلغة الغاب وبأسلوب مصاصي الدماء، أن تقابل رائحة المداد برائحة الدم. القضية أكبر من هذا بكثير، المسألة ليست اغتيالا صحفيا، وليست مجرد انتقام من شخص يكتب، والموت ليس غريبا، فكل إنسان سيموت حينما يدنو أجله لكن الطريقة التي انتهت بها حياة هذا الرجل الصحفي المرموق كانت غريبة جداً، المسألة في نظري، هي مسألة إدخال ثقافة الخطف والاغتيالات داخل حدود السودان وإدماجها ضمن الثقافة السودانية التي اتسمت بالتسامح والسلم والرفعة والارتقاء والأمن، لقد اختار المجرمون ضحيتهم بعناية شديدة، فالشهيد محمد طه، كان الأنسب من غيره، لكونه عرف بالصدح بالحق دون أن يخاف لومة لائم، فهو ينتقد الفساد منذ عهد نميري، وكذلك أيام الديمقراطية الثالثة (المهدي - الميرغني) ثم في عهد الإنقاذ، ولم ينج من نقده حزب ومنهج الدكتور حسن الترابي، ولا رموز المعارضة، ولا حتى متمردو دارفور الذين يرى البعض أنهم تسببوا في مشروع إدخال القوات الدولية في السودان، كما اختلف طه مع هيئة علماء السودان حين سمح -رحمه الله- بنشر بعض التساؤلات التي فهم منها أنها تشكل طرحا غريبا لنسب الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-، ثم اعتذر وتراجع عن موقفه ذاك، فإدخال ثقافة العنف والإرهاب تحتاج إلى تخطيط دقيق وتوقيت مناسب، وشخصية قابلة للاستهداف، بحيث تكون على قدر من إثارة الجدل، وذات علاقات متشابكة تنطبق عليها تحليلات عديدة واتهامات متباينة تساعد على تمويه مصدر الجريمة، فالكاتب الصحفي الشهير الشهيد محمد طه لم يكن ينتقد جهة لمصلحة جهة أخرى أو من أجل التعصب لتيار أو حزب بعينه بل كان ينتقد كل ما يراه خطأ وفسادا وظلماً، لذلك يسهل تصنيف أي جهة (مفسدة) كعدو تقليدي له وهذا ما خطط له المجرمون بعناية شديدة قبل تنفيذ جريمتهم. إذا لم تنجح أجهزة الأمن السودانية في الكشف عن أبعاد أغرب جريمة في تاريخ البلاد، فستكون تلك كارثة تضع السودان (المثقل بالجراح) على حافة أزمة جديدة أشد فتكا من كل سابقاتها، وهذا ما يهدف إليه منفذو الجريمة التاريخية ومن يقف وراءهم، فالمجتمع السوداني اليوم بكل قطاعاته الصحفية وغيرها مذهول جدا لما حدث، وهو ينتظر مع مرور كل ثانية أو دقيقة أن تنكشف أبعاد الجريمة ليتنفس الناس الصعداء، وإلا فالبلاد مقبلة على نفق مظلم جداً. ما زلت عند اعتقادي بأن المسألة أكبر من مجرد انتقام أو ثأر أو جريمة ارتكبت لبواعث ذاتية أو كرد فعل لرأي أو كلمة تخالف منهج فئة من الناس، بل هي (في ظني) محاولة (كبيرة) لإدخال هذا النهج إلى السودان الذي يعتقد البعض أن خصوبته مهيأة لنمو ثقافة الاغتيالات والتصفيات والعنف والإرهاب، ولكن من الصعب أن تنطلي مثل هذه المحاولات اليائسة على الشعب السوداني الذي عرف بالوعي والإدراك وجبل على التعايش السلمي ورفض أساليب العنف والتصفيات وثقافة الدماء، لأنه ببساطة استنكر ما حدث واعتبره نهجا مستغربا ودخيلا على البيئة السودانية، فلن يكتب لمثل هذه المحاولات أي نجاح، لأن المنهجية نفسها مستهجنة من كافة أفراد الشعب، وغير مرحب بها لدى أي فئة من الناس، فلن تجد مرتعا لها كما تصور مهندسوها. * ملحوظة - كتبت هذه المقالة قبل أن تظهر أي أبعاد أو دلالات للجريمة المنكرة