أرجعت دراسة علمية الغُلو في الدين إلى عدد من الأسباب من أهمها (قلة الفقه في الدين) و(اتباع الهوى)، و(مجالسة الغلاة، وقراءة كتبهم، التقليد والتعصب)، ذاكرة أن علاج هذه الظاهرة يظهر جلياً في النصوص القرآنية من خلال جانبين: الأول وقائي، والثاني عقابي، موضحة أن العلاج الوقائي يتمثل في: نشر العلم الشرعي، والتفقه في دين الله، وقيام أهل العلم بواجب الإبلاغ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجادلة بالتي هي أحسن، أما العلاج العقابي فيكون بهجر الغالي وتعزيره بما يدفع شره. جاء ذلك في الدراسة العلمية البحثية التي أعدها عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية الدكتور إبراهيم بن عبد الله الزهراني بعنوان: (ظاهرة الغلو على ضوء القرآن الكريم.. حقيقته، أسبابه، علاجه). معرفة الغلو وعرف الباحث في مستهل البحث مصطلح الغلو، وقال: إنه يعني في لسان العرب مجاوزة الحد، وقد ورد لفظ الغلو في القرآن الكريم في آيتين في قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً }، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }. وأفاد أن الخطاب في الآيتين موجه لأهل الكتاب، ولذلك فإن معرفة الغلو الذي نهوا عنه تتوقف على معرفة المقصود بأهل الكتاب، والانحراف الذي وقعوا فيه، أما المخاطبون، فهم النصارى في قول جمهور المفسرين، واختيار ابن جرير الطبري، وأما الغلو الذي وقعوا فيه، فقد حكى الله عنهم غلوهم في عيسى - عليه السلام - وأحبارهم ورهبانهم، وعبادة ابتدعوها من عند أنفسهم، فقال بعضهم في عيسى هو الله، وقال بعضهم إنه ابن الله، وقال فريق آخر إنه هو ثالث ثلاثة، قال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، أما غلوهم في أحبارهم ورهبانهم، فبينه الله سبحانه وتعالى بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ووصف الباحث ظاهرة الغلو بأنها كغيرها من الظواهر أدى إلى نشوئها وظهورها أسباب كثيرة ومتنوعة، اختلف الدارسون لهذه الظاهرة في تحديدها، وقال: إن أسباب الغلو يمكن تقسيمها إلى قسمين، أحدهما: أسباب ذاتية، ترجع إلى الغالي نفسه، والثاني: أسباب خارجة عنه، ترجع إلى واقع يعيش فيه الغالي، أو حال مر بها، فالغلو حينئذ يأتي رد فعل على ذلك الواقع، وتلك الحال. المصالح والمفاسد: وأكد عضو هيئة التدريس بكلية الملك فهد الأمنية أن الأسباب الخارجية تحتاج إلى وقفة حازمة، وموقف راشد من كل العقلاء، وحملة العلم، وولاة الأمر، تحتاج إلى كل ذلك لتحديدها، ومعالجتها، حتى لا تغرق سفينة المجتمع، وتحل الفتنة بالجميع، ويختل الأمن، وتنتشر الفوضى في ربوع المجتمعات الإسلامية، موضحاً أن بعض المجتمعات الإسلامية تعيش واقعاً مريراً، لأسباب كثيرة ومتعددة، خارجية وداخلية، وعامة وخاصة، فتأخذ الغيرة بعض الناس، وقد يكون غير مؤهل من حيث العلم الشرعي، والصفات النفسية، وتحمله على العمل على تغيير ذلك الواقع الذي يرى فيه واقعاً مخالفاً لما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم، ومن هنا تحصل الأخطاء وتكثر، وتستمر وتتطور، إلى أن تصل إلى درجة الانحراف والغلو. وقال: لا يختلف العقلاء في أن الخطأ يجب أن يغير، ولكن على من أراد أن يغير أن يسلك في سبيل ذلك المسلك الشرعي، الذي يراعي المصالح والمفاسد، ويوازن بين المصالح والمفاسد، دون إخلال بقطعيات الشرع، وثوابت الدين، وهذا مسلك عسير، يحتاج إلى علم وافر، وحكمة ظاهرة، وخبرة بالأمور، وإذا تصدى للأمور من لا يحسنها حصل الضرر، وحدثت العجائب. ولقد لفت الإسلام الأنظار إلى خطورة الأفعال التي تحدث نتيجة مواقف معينة، أو أحداث واقعة. وأرجع الباحث الأسباب الذاتية للغلو إلى أربعة، أولها: قلة الفقه في الدين، ثانياً: اتباع الهوى، ثالثاً: مجالسة الغلاة وقراءة كتبهم، رابعاً: التعصب والتقليد، فقال عن السبب الأول: الدين الإسلامي مبناه على الوحي، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إذا مَا يُنذَرُونَ }، فإقامة الدين على الوجه المطلوب شرعاً لا تحصل إلا بالعلم بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أمر المولى - تبارك وتعالى - بطلب العلم، فقال: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاستغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }، وندب المؤمنين إلى التفقه في الدين، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كافة فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }، وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، مشدداً على أن مجالسة الغلاة من أبرز الأمور التي تؤثر في الشخص، لأن في مجالسة هؤلاء خطر عظيم، فقد يخفى أمر الغلو على من يجالس الغلاة، لأنهم قوم يدّعون الفهم الصحيح للدين ويتمثلونه في واقعهم كما أمر الله، ويستدلون على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، بل وإجماع الأمة، فيفتن المجالس لهم بما يقولون، فيعتقد صحة منهجهم، ويسلك مسلكهم، ويتبع طريقتهم، وقد أبان - صلى الله عليه وسلم - أن الإنسان يتأثر بمجالسه ولابد، وأن الإنسان المستقيم على الهدى قد ينقلب على عقبه إذا صاحب من ليس كذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة). الغلو الاعتقادي وواصل الباحث قائلاً: إن بعض أهل الغلو - وخاصة أصحاب الغلو الاعتقادي - يعتقدون كفر من لم ير رأيهم، وبالتالي إباحة دمه، وزوال العصمة عن ماله وحرمته، فإذا جالسهم الإنسان ربما أوقعوه في مثل هذا المعتقد الفاسد، وأصبح سيفاً مسلطاً على رقاب الموحدين، وداعية بدعة في ديار المسلمين ومفرقاً لجماعتهم، مشيراً إلى أنه إذا سلم المجالس لأهل الغلو من اعتقاد مذهبهم، فقد يلتبس عليه الأمر، فلا يدري من هو الذي على الحق؟ وأي سبيل أحق بالاتباع؟ فيشك في دينه، ويبقى في حيرة، وقد يأخذ سبيلهم تارة، ويخالف أخرى، وكفى بهذا بلاء وفتنة. وأضاف ومما يدل على خطورة مجالسة أهل الغلو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات أو لما يبعث به من الشبهات)، والإنسان إذا مكن للشبه أن تطرق سمعه، قد يصل إلى قلبه منها شيء، فتقر فيه، فيهلك، وقد تساهل بعض الناس في الدخول على أهل الأهواء، فاتبعوهم في بعض ما يقولون، وحاد عن الطريق، وكان السلف الصالح يمتنعون من سماع كلام أهل الأهواء، خشية أن تصيبهم الفتنة بما يثيره القوم من شبه. وأبرز الدكتور الزهراني أن أدنى ما يمكن أن يلحق المجالس لأهل الغلو، المصاحب لهم، أن يعرف بصحبته لهم، فينسب له ما ينسب إليهم، وإن لم يكن على طريقتهم، فلا يسلم عرضه، ويناله الأذى، ويتعرض للبلوى، ولا خير في مودة تجلب عداوة، وتورث مذمة وملامة، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أبصر الناس بأخدانهم)، كما أن من خطر مجالسة الغلاة أن يتعرض المجالس لأهل الغلو لمقت الله - عز وجل - وعقوبته، لأن أهل الغلو في الغالب لا يسلمون من الخوض في آيات الله، وقد نهى الله عن مجالسة من يخوض في آياته، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }، لافتاً النظر إلى أنه في هذه الآية موعظة عظيمة لمن يجالس المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها، علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولاسيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة عمره، ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو - والله - من أبطل الباطل وأنكر المنكر. علاج الظاهرة وخلص الباحث إلى القول: إن علاج ظاهرة الغلو يكون من جانبين، الأول: وقائي: بنشر العلم الشرعي، والتفقه في الدين، وقيام أهل العلم بواجب الإبلاغ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمجادلة بالتي هي أحسن، والثاني عقابي، وذلك بهجر المغالي، وتعزيره بما يدفع شره، والدليل على ذلك من الكتاب، والسنة، والإجماع، ففي كتاب الله تعالى يقول رب العزة: { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إذا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعً}، وأما من السنّة، فيدل عليه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهجر الثلاثة الذين خلفوا، وهم هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك. وأضاف أما تعزير الغالي بما يدفع شره، فلأن الأصل أن كل ما يترتب عليه فساد في الأرض، يجب على ولي الأمر أن يمنعه، حماية لجناب الدين، ودفعاً للفساد عن المسلمين، لأن من واجبات الإمام: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق، والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل، مؤكداً في نهاية البحث أن الأخذ على أيدي الغلاة باب من أبواب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقيام به على حسب المقتضى، فإذا لم يندفع الغالي إلا بعقوبته وتعزيره عوقب، لأن في ذلك حماية له من الزلل، ورعاية لمصلحة الأمة من الخلل، حتى لا يروج باطله، وينخدع به الجهال، ومن لا يعرف حقيقة ما هو عليه.