الشريعة الإسلامية لم تهضم العقل البشري حقه من التفكير والإبداع والإنتاج المعرفي، وأيضا لم تتركه هملاً يهيم في أودية الضلال الفكري، بعكس الفلاسفة والمتكلمين الذين قدَّسوا العقل حتى جعلوه إلهاً يُعبد، والخُرافيين الذين عطَّلوا عقولهم بل باعوها للدجالين والخرافيين.. والقرآن ذمَّ هؤلاء وهؤلاء.. اثنان من ذوي الاختصاص في العلوم الشرعية تحدثا عن الحدود والمساحة التي يعمل فيها العقل البشري دون إفراط أو تفريط.. فماذا قالوا؟! حدود العمل العقلي الدكتور عبدالرحمن بن زيد الزنيدي أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض يؤكد: أن العقل البشري ملكة إنسانية وظيفتها - بالتعامل مع ملكات الإنسان الأخرى - تحقيق الوجود الإنساني في هذا الكون في أسمى صوره الإنسانية؛ ولهذا من أجل استبصار هذه الوظيفة ومن مسارات حركة العقل ينبغي ابتداء وعي هدف وجود الإنسان في هذا العالم. لقد خلق الله الإنسان ليكون خليفة على هذا الكوكب الأرضي يستعمره ويستثمر خيراته عبر بناءات حضارية وعلمية تعجز عنها المخلوقات المحيطة بها جمادا ونباتا وحيوانا، ومن أجل تحقيق الإنسان لهذه الخلافة وفق الصورة الصحيحة أمده المولى الكريم بشيئين: - بقدرات الحس والعقل التي هي وسيلته للعلم {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (78) سورة النحل. - وبمنهج يحدد له علاقاته بالموجودات من جهة، وبسبل استثماره لهذه القدرات من جهة أخرى. بناء على هذا فإن ما هيئ العقل للعمل فيه ومن ثم الإبداع والإنتاج هو: أولاً: استقبال منهج الله وفقهه لتكييف الحياة على أساسه اعتقاداً وتعبداً وسلوكاً. وثانياً: النظر في الكون وتعرف سننه وتسخير معطياته لخدمة الإنسان. وهذا ما يعبر عنه بعض العلماء حينما يقولون إن مهمة العقل هي النظر في كتاب الله المسطور، وكتابه المنظور، وفي هذا الإطار كان التوجيه القرآني والنبوي للعقل الإنساني أن يندفع في مجالات وأن ينأى بنفسه عن مجالات أخرى: فقد طلب الإسلام من المسلم أن ينظر في هذا الوجود المادي والبشري معتبراً مستثمراً لقوله صلى الله عليه وسلم: (تفكروا في آلاء الله)، ويقول سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} سورة آل عمران (190- 191). {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (53) سورة فصلت، ووجه إلى استثمار هذا الكون في منافعه المادية لافتاً إياه إليها {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (14) سورة النحل، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تداوو ولا تداوو بحرام) والتداوي لا يكون إلا بدواء والدواء يحتاج إلى بحث واختبار واكتشاف، كما وجههم إلى النظر في سنن الله في خلقه والاعتبار بما جرى للسابقين من نعم ونقم وسراء وضراء. العمل المنتج ويضيف د. الزنيدي قائلاً: إنه في مقابل هذا الدفع بالعقل لهذه المجالات التي بَرَأَه الله مهيئاً للعمل المنتج فيها صرفه عن التيه في بيداء الفلسفات الميتافيزيقية التي تبحث في غيبيات لم يؤهل العقل المحدود بحدود الزمان والمكان للعمل في مجالها حفظاً له من الإجهاد غير المجدي من جانب، ومن التيه في الحيرات الفكرية التي لم تزدد عبر القرون إلا تَعمِّيا واضطراباً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا) وانفعالاً من المسلمين في قرونهم الأولى بهذا التوجيه الإسلامي عزفوا عن الفلسفة التأملية في قضايا الوجود المطلق - الذي كان اهتمام الفلسفة آنذاك - نحو العلوم الكونية وشكلوا منهجهم الاستقرائي «التجريبي» الذي تلقفته منهم أوروبا بعد ذلك. وما وجه إليه الإسلام وما سلكه المسلمون - هو ما آبت إليه أوروبا في عصورها الحديثة؛ نقداً للفلسفة الميتافيزيقية التجريدية ومنطقها الأرسطي، وإزراءً بها، وامتطاء للمنهج التجريبي الاستقرائي في تسخير الكون المادي وعالم التقنية، كما حث الإسلام العقل المسلم على النظر في منهج الله الذي بعث به رسوله لتقوم حياة المسلمين به عبر التفقه في الدين الذي يترقى نحو مستويات علمية عالية لها شروطها العلمية في مرحلة الاجتهاد يقول سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة، والاجتهاد عملية علمية يمارسها المتخصص في علم الشريعة المؤهل عبر منهجية عقلية من أجل استنزال أحكام من الشريعة الثابتة لأحداث الحياة المتغيرة لتتواصل هذه بتجدداتها وتطوراتها مرتبطة بشريعة الله مستقيمة على قيمه السامية لتظل حياة الإنسان على المستوى الفردي والاجتماعي قائمة على العدل والحق واحقاق المصالح ودرء المفاسد، كما صَدَفَ الإسلام بأتباعه عن الانسياق وراء الأوهام والتخريف والسحر وحفظ عقله من التردي في أوديتها المفسدة له. التثبت في النقل ويبيّن د. الزنيدي أن الإسلام وضع للعقل في حركته المعرفية مسالك منهجية تزكي معرفته وتحفظها من الفساد المعرفي فأمر الإنسان بأن لا يقتفي ما لا دليل عليه {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (36) سورة الإسراء، وأن يتثبت من المنقولات قبل بناء الأحكام عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (6) سورة الحجرات، وألا ينساق مع عواطفه وأهوائه معرضاً عن الحق {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (26) سورة ص، وأن يلتزم الصدق فيما يقول، وألا يزيف الحقيقة لمصلحة شخصية، أو حزبية أو يكتمها لغرض غير نزيه {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (42) سورة البقرة، وأن يتجرد لطلب الحقيقة متحررا من العقل الجمعي الذي يصد عن تبصر الحق والاعتراف به {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (46) سورة سبأ، إلى غير ذلك من المسائل المنهجية كي تكون حركة العقل المسلم سوية منتجة. الوسطية شعار مميز ويوضح الدكتور حمد بن أحمد البدر الأستاذ المساعد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم: أن الله سبحانه وتعالى خالق الخلق هو مصدر الشرائع والأنظمة كلها للناس أرسل رسله مبشرين ومنذرين بلسان أقوامهم لكي يعوا ويفقهوا رسالة ربهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (4) سورة إبراهيم، وقد أكمل دينه وأتم نعمته على المؤمنين بما نزله من القرآن على خاتم رسله وبما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل قيام من بيان مراد الله تعالى ممن تنز يله و هذا الدين يسر قد رفع الله تعالى منه الحرج كما نطق به القرآن مثل قوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (78) سورة الحج، وقوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (8) سورة الأعلى. أي الشريعة التي تفضل غيرها باليسر لذالك سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ووصفها بقوله: (ليلها كنهارها) وجعل الدين عين اليسر مبالغة في اليسر فقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر ولن يشادٌ الدين أحد إلا غلبه) رواه احمد والبخاري في الأدب المفرد والقرآن أصل الدين وأساسه {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (38) سورة الأنعام. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (89) سورة النحل، أختار الله سبحانه وتعالى الوسطية شعاراً مميزا لهذه الأمة التي هي آخر الأمم ولهذه الرسالة التي ختم بها الرسالات الإلهية وبعث بها خاتم الأنبياء قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (143) سورة البقرة. قال المفسرون إي عدول خيار والوسط: ما كان بين طرفين وهذه الأمة بين طرفين من الأمم طرف الغلو وطرف التساهل. بين من قتل الأنبياء وأسرف في التحريم وغلا في جانب الماديات وبين من إله الأنبياء وأسرف في التحليل وقصر في الماديات وهكذا يكون الفرد من هذه الأمة وسطا بين الغلو وبين التساهل وبين الإفراط والتفريط فلا يغلو غلو المتطرفين والخوارج ولا يتساهل تساهل المنحلين والمضيعين. فحذر من الإفراط والتفريط عملاً بقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (153) سورة الأنعام، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين فقال: (إياكم والغلو في الدين فإنما اهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} (77) سورة المائدة، وقد عاب سبحانه على أهل الجاهلية تشريعهم وبين أن ذلك من عند أنفسهم قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (103) سورة المائدة. قلة الفقه في الدين ويؤكد د. حمد البدر أن أولئك فعلوا ما فعلوه لأسباب منها اتباع آبائهم وأسلافهم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} (104) سورة المائدة، واتباع الهوى قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (23) سورة الجاثية، وقلة الفقه في الدين وبسببه ضل كثير من أبناء الأمة واعتنقوا أفكاراً ضالة فابتعدوا عن الصراط المستقيم وجانبوا الطريق الصحيح ولم يأخذوا بالنصوص القرآنية التي تدعو إلى اجتماع الكلمة ونبذ الفرقة قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (103) سورة آل عمران، وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (105) سورة آل عمران، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (159) سورة الأنعام، فالشريعة الإسلامية دعت للاعتدال والتوازن في جميع الأمور في العقيدة والعبادة والمعاملات والأحكام والتشريع وجعلت من كل ذلك تشريعا صالحا لكل زمان ومكان يجنب الأمة الغلو والتقصير ويجنبهم الاختلاف والتضاد والفرقة، وكذلك دعت إلى الاعتدال والتوازن في مطالب الدنيا قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31) سورة الأعراف، وقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص، فهذه النصوص وغيرها تدعو إلى الأخذ بالأسباب المؤدية إلى مطالب الدنيا المباحة والاعتدال في تناول الطيبات دون إفراط أو تفريط ودون إسراف أو تقتير.