الحديث عن الطبيب والأديب الدكتور عبد السلام العجيلي يظل ممتعاً ومثيراً على الرغم من كل ما كتب عنه أو قيل فيه، لأن شخصية العجيلي الإنسان لا تقل أهمية وإثارة وإدهاشاً عن قصه وإبداعه الأدبي لما في هذه الشخصية من ثراء واقتدار فهو البدوي والحضري، والأديب، والروحاني والعالم وشيخ العشيرة والوزير والزاهد في المدن والرحالة الذي طاف العالم والمحاضر والفنان والمتواضع والشامخ مثله مثل قصصه القائمة على التضامن والمفارقة قطب الواقع وقطب الأسطورة. فقد أقامت مديرية الثقافة في مدينة الرقة (شمال شرق سورية) مهرجان العجيلي الأول للرواية العربية ما بين 4 حتى 7 كانون الأول من عام 2005 تحت شعار (العجيلي أيقونة الرقة) توزعت أعمال المهرجان على سبع جلسات عمل قدمت فيها أربع وثلاثون مساهمة بين شهادة وبحث. وبمشاركة عربية واسعة بعشرة من كبار المبدعين والنقاد الذين استضافهم المهرجان من مصر ولبنان والأردن والعراق وفلسطين والجزائر كما استضاف المهرجان سبعة عشر كاتباً وكاتبة من مختلف المدن السورية بالإضافة إلى سبعة من أبناء وبنات الرقة تناولت أربعة عشر بحثاً من الأبحاث المقدمة للمهرجان من إبداعات العجيلي الروائية والقصة والنقد الخاص بها كما قدمت أربع شهادات في (أيقونة الرقة) وتجربته الإبداعية والثقافية والإنسانية. ليل البوادي افتتح المهرجان بعرض راقص لفرقة الرقة للفنون الشعبية بقيادة الفنان اسماعيل العجيلي مؤسس ومدرب الفرقة حيث تألقت الفرقة برقصاتها ومطربتها خولة حسين الحسن والعمل من تأليف الدكتور عبد السلام العجيلي الذي أمدّ الفرقة بعشرات الأعمال مثل الأصايل - برج عليا - حصار الثكنة - قصر البنات وعلى رغم إمكانيات الفرقة المتواضعة إلا أنها ما تزال تقدم عروضها باستمرار وأغلب أعضاء الفرقة يعملون فيها مجاناً وهم من طلاب الجامعات والمعاهد وغاب عن العرض ابراهيم الأخرس بربابته. وقبل العرض أُلقيت عدة كلمات لمدير المهرجان الأستاذ حمود الموسى وممثل راعي المهرجان الدكتور محمود السيد وزير الثقافة ألقاها نيابة عنه احمد شحادة خليل محافظ الرقة والدكتور صلاح فضل من مصر كلمة المشاركين وكلمة للوفد التركي ألقاها جيتهان جنكيز رئيس اتحاد أدباء تركيا. وفاء يقول العجيلي في دليل المهرجان (إذا لم يكن ارتباطي بالرقة عاطفياً فهو على الأقل ارتباط واجب، بلدة عشت فيها، أهلي فيها وأصدقائي فيها، وهي التي زودتني بما بنيت عليه حياتي المستقبلية من علم ومقام اجتماعي وإمكانيات مادية، من العقوق أن أتركها لمجرد أن هناك بلداً أحسن منها...). حيث اقترنت مدينة الرقة بالعجيلي مثلما اقترن العجيلي باسمها فكلاهما يعرف بالآخر إذ لا يذكر الرجل إلا وتنهض الرقة مع ذكره ولا تذكر الرقة حتى ينهض اسم العجيلي مع ذكرها كلاهما يكمل الآخر ويكتمل به. سبق إصرار (... يقول لي بعض الأحبة: أليس إقامتك في الرقة حالة غريبة! ألم يكن المقام أطيب في كثير من الأماكن والمدن؟ والحقّ أقول: لقد اخترت هذا المقام عن سبق الإصرار والترصد، فأعطتني مدينتي مثلما أعطيتها، وصدق الشاعر حين قال: (... لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق...) كان ذلك بعض ما جاء في رسالة الأديب الكبير عبد السلام العجيلي إلى المشاركين في مهرجان العجيلي الأوّل للرواية العربية، ويضيف العجيلي في رسالته التي تلتها الأديبة شهلا العجيلي: لم أرد أن أكون عالة على أحد، وإنما أردت أن أعيش بعزة فقد خلقت على سوية لم أقصد إلى تجاوزها، ومارست فعل الحياة بعفوية.. ويضيف أيضاً: أعتز بهذه المناسبة ولكن هو جميل أن أكون مثالاً للإنجاز والمنجز الفكر والأدبي بين أهلي، وأن يتنادى المحبون من كل حدب وصوب وكأنني بالرقة تزحف إلى كل مدينة جاؤوا منها، وكأنني بنفسي أركب سيارتي وأزور مدائنكم التي أحبها كما أحبكم... تكريم متأخر يقول الدكتور صلاح فضل من مصر في كلمة المشاركين تكريم العجيلي ضرورة وإن جاءت متأخرة قليلاً وكنا نود أن نكرمه وهو في عنفوانه وهو بيننا وكان علينا ألا ننتظر حتى اليوم، ومع ذلك فإن تكريم المبدعين هو إبراز لأهم ما في الثقافة وتجلية للرموز التي تصنعها لنا، من استماع إلى نبض قلوب أمتنا في أعمالهم وإبداعاتهم ونحن لا نكرمهم أشخاصاً وإنما نكرم ما يمثلونه بالنسبة لنا من العقل الذي نفكر به والقلب الذي نشعر به والوجدان الذي نستضيء به ونحن نوجز كل ذلك في اسم العجيلي نحترم إنسانيتنا وتاريخنا وإنجازنا ونتعرف عليه في قسمات إبداع كبار الخلاقين من كتابنا. وعاد العجيلي إلى مدينته الصغيرة ليبادلها العشق والعطاء وهو بذلك لا يرد الوفاء بالوفاء فحسب لكن يمد خارطة الوعي العربي إلى المدن الصغيرة والبادية والريف لأن وعينا يتقلص وينحصر كلما تمركزنا في زاوية واحدة. لقد جعل من الرقة إحدى عواصم الرواية العربية من هنا فالاحتفال بالعجيلي يعد احتفالاً بالرواية العربية التي تخمرت وتجذّرت هنا ودخل إنسانها تاريخ الإبداع في قلم العجيلي، وهذه الخبرة والتواصل الحميم بالبشر وبالأرض وبرائحة الماء والتراب والإنسان لا يحيله إلى كاتب محلي معزول عن غيره فإبداع العجيلي إبداع إنساني شامل عرف كيف يكسر جدار العزلة أكثر من بعض من يقيمون في العواصم الكبرى فرحلاته المادية والحسية التي قام بها في تجوالاته العريضة كانت أجنحته في العبور إلى الإنسانية فإخلاصه العميق للفن وتلك الثقافة الواسعة ذات البطانة الدافئة والوعي بثقافة الآخرين وأروع ما أنتجته عقولهم من فن تشكيلي ونحت وإبداع وكتب كانت الأجنحة التي طار بها أدبه ليعانق الأدب الإنساني. العجيلي أصبح بالفعل كما اخترتم بتوفيق بديع أيقونة لا للرقة فحسب ولا للرواية فحسب بل لإرواء الإنسان الذي جعل من مدينته نموذجاً نضراً يحتوي كل ثقافات العالم. شهادات المداخلات التي تناولت أعمال العجيلي والتي جاءت احتفاءً بأدب العجيلي ولمساهمته في الحياة الثقافية العامة جاءت في محورين: شهادات، وأبحاثاً نقدية، الأولى قدمها أدباء والثانية نقاد، لكن التداخل بينهما - بين المحورين - كان كبيرا إذ غالباً ما تنقلب الشهادة لدراسة نقدية، والعكس كان يحصل أيضاً... نذكر من المحورين: ابن الرقة هذا هو عنوان شهادة الدكتور نبيل سليمان الذي قال فيها: لأنه لون خلواتنا في قصصه ورواياته لأنه جلا عتماتنا بمحاضراته ومقالاته لأنه بلسم أدواءنا بطبه ها نحن نلتقي في بيته الكبير في الرقة لنوفه أقل القليل من حقه علينا. يأتي احتفاؤنا بأيقونة الرقة تعبيراً عن احتفائنا بالقيم الإنسانية النبيلة لقد أغنى الحياة الثقافية وعمل بالانتماء إلى فراته وباديته ورقته كما عززت إبداعاته النبض الإنساني والحضاري فحقّ علينا أن يحمل هذا المهرجان اسمك نتأمل فيه ما أبدعت. العجيلي وأنا ما ذكره الروائي السوري ممدوح عزام في شهاداته (العجيلي وأنا) حول قصة (الشباك) من مجموعة (قناديل اشبيلية)، والتي كان قد قدم لها بقصة شهيرة من الاسرائيليات من قصص الأنبياء وهي التالية (قال الخضر لصاحبه: هذا ملك الموت قادم إلينا، فاستولى على صاحبه الفزع، وقال له: يا نبي الله إني خائف، ادعُ ربك أن ينقلني الساعة إلى الهند، فدعا الخضر ربه، فأرسل الله ملكاً حمل صاحب الخضر إلى الهند في ساعته، وتقدم ملك الموت وعلى ملامحه الدهشة إلى الخضر، فقال له الخضر وماذا يدهشك؟ قال ملك الموت: يدهشني أني رأيت صاحبك هنا، وفي لوح الأزل مكتوب أني أقبض روحه في الهند).. هذه (الحلاوة) في أدب العجيلي يقول عزام هي الجرعة المحسوبة والضامنة لأي نص أدبي في العالم كله، ذلك أن أي خطاب يمكن أن يفسد، أو يفقد جوهر رسالته إذا ما زال عنده طعم الحلاوة، هذه الحلاوة يجدها موجودة بالفعل في قصص العجيلي، وإذا ما تأملنا مطالع قصصه سوف نجد أن أول ما يفعله هو الإمساك بتلابيب القارئ لمتابعة قصته التي تميل إلى استعارة صياغات الحكاية ونهجها في التشويق، ولكنها سرعان ما تنمو داخل حقلها كنص يتباين يختلف عن منطوق الحكاية.. ويضيف عزام: ليست لدى العجيلي نهايات، والأفضل أن أقول إن لديه نهايات وليست خواتيم، فالخاتمة قفل لا يتمدد النص خارج حدودها، أما النهاية فإنها تنفتح على آفاق يمعن خيال القارئ فيها من أجل إعادة تركيب القصة، كما أن قصصه عصية على التلخيص مثل أي عمل جيد، إذ إن هذا الإجراء يسلب النص قوة الحضور، ولا حضور إلا بالاكتمال، وأغلب قصصه مكتملة... عينٌ على الوطن (مصرع أحمد بن محمد حنطي) قصة قرأها الأديب ياسين رفاعية منذ أربعين عاماً يقول عنها إنها أمسكت به حتى اللهاث والرعب، كتبها العجيلي بأسلوب (فلاش باك) بتوتر عال، بحيث يجد القارئ نفسه كأنه هو القتيل شخصية القصة التي أصيب بالرصاص في الصحراء ويضيف إن معظم قصصه كتبها على هذه الشاكلة، إنها حياة زاخرة بالناس ومستوحاة بعمق من أعماق وجودهم وتفاصيل عيشهم اليومي، وإن أردت الاختصار أقول إن العجيلي نفسه قصة كبيرة يتلبس الحالة إلى حد الانعجاب والالتحام بتفاصيلها، هكذا تخرج القصة من بين يديه بناءً محكماً إلى آخر الحدود شكلاً ومضموناً، واعتبر رفاعية أن القصة لدى العجيلي كانت تمريناً على الرواية، فقد كان يطوّر القصة من القصيرة إلى الأطول قليلاً إلى القصة الطويلة ثم أخيراً إلى الرواية، ويذكر رفاعية إن العجيلي كتب حوالي عشر روايات، كان الحب هو الترسانة المسلحة فيها وعليه يبني معظم أعماله، سجل الحياة بكل تداعياتها بقلم صادق ورهيف، ميزة ما كتبه أنه مقروء من مختلف طبقات الشعب، كما كتب الرواية المحلية العربية العالمية بوقت واحد، أدرك هذا الأمر المستشرقون وتحدثوا عنه مطولاً. عمق الصحراء أما الأديب وليد إخلاصي فيذكر: إن العجيلي خرج من عمق الصحراء السورية نقياً كذرات رملها، وقد تحولت إلى تربة أزهر العلم في طياتها ليصبح طبيباً يداوي الجراح، وما لبثت روحه أن تفتقت عن حكواتي قدره أن يشهد على عصره، كما أن اهتمامه بالآخرين تفجر ليمارس السياسة فترة من حياته فيكون عيناً لها على الوطن وعيناً على ذاكرة زمن يلهث هرباً من ضياع، أما الروائي نبيل سليمان فيقول عن العجيلي: لأنه لوّن حياتنا بقصصه ورواياته، لأنه جلا عتماتنا بمحاضراته ومقالاته، لأنه بلسم أدواءنا بطبه، ها نحن نلتقي في بيته الكبير في الرقة، نبيل سليمان الذي كان له الدور الكبير في إقامة هذا المهرجان والإشراف عليه، يقول (ابن الرقة) كما أطلق على نفسه إنه في هذه المدينة كتب روايته الأولى التي لم تنتشر حتى اليوم، وفيها كتب أول رواياته التالية وشكلت خمس سنوات كما لم تشكله أضعافها في اللاذقية أو البوادي، الرقة التي تلامحت في ضعف ما كتب، حتى إذا جرَّب أن يكتب رواية عيشة فيها توقف بعد ثمانين صفحة، الرقة التي لطشتني بسحرها وسكنتني بسحرها منذ كنت في (الثانية والعشرين حتى سن الثانية والعشرين).. الرقة عاصمة للثقافة ببعض ما جاء في شهادة الناقد المصري صلاح فضل هذه الشهادات كانت تقريباً نصف الأوراق التي قدمت حول أدب العجيلي، يقول د.فضل: إن العجيلي استطاع أن يضرب نموذجاً حقيقياً بالشخص الذي يضع المركز أينما يقيم، فبعيداً عن مركز العاصمة فقد جعل من الرقة إحدى عواصم الرواية العربية، ومن هنا يأتي الاحتفاء بالعجيلي احتفاءً بالرقة وبالرواية العربية، وقد جاء إبداعه إنسانياً شاملاً عرف كيف يكسر جدار العزلة الذي يضيع خلفه من الأدباء حتى الذين يقيمون في العواصم الكبرى. ويضيف صلاح فضل عن رواية (أجملهن) وهي الرواية التي نالت العديد من القراءات وبالمناسبة هي آخر ما كتبه عبد السلام العجيلي من أعمال إبداعية والتي صدرت عام 2001، يقول: مع أنه شهد فترات المد والانحسار الأيديولوجي القومي والماركسي، فقد استطاع أن ينجو من تياراتها ملتزماً دائماً قضايا الإنسان العربي، رواية (أجملهن) تغمر قراءها بعنفوان تجربتها الشابة، مع أن صاحبها تجاوز الثمانين بسنين، ومن المثير للتأمل أن أسلوب الرواية الصافي، أصواتها القليلة وخطوطها العريضة الأنيقة في الحوار والحركة تشيع لدى القارئ نوراً داخلياً يشبه إضاءة الأفلام السينمائية الموحية بالبعد التاريخي الفاصل بين الأزمان، وعلى الرغم من الطابع الوصفي والحواري المسيطر على الرواية واقتصارها على عالمي سعيد وسوزان وما يناوشهما من ذكريات وتجارب، فإن تنقلهما في المكان ومشاهداتهما للمدن والآثار ومناجم الملح وبحيراته في أوروبا يعطي حيوية فائقة للأحداث، لاسيما بنمو العلاقة بينهما من التعارف إلى التمازج الجارف حتى درجة العشق، إذاً فهي لا تنتمي إلى مجرد أدب الرحلات المألوف، بل تنفذ إلى أسفار القلب وفتوحات الروح في فلسفتها الرائعة عن الدين والحياة والحب والجنس والشرق والغرب وذلك عبر رحلة مثيرة لمحام عربي شاب إلى فيينا فتسحره نساؤها حتى يقرر في نزق موافقة أجملهن، والطريف أنه يظفر بذلك... السرد الفعال والمغيِّر للناقد عادل فريحات من سورية ومصلح النجار في الأردن، فقد عرضت الرواية حسب د.فريحات شكلين من الحب اختلفا باختلاف المكان الذي بزغا فيه، وهما حب عبد العزيز لندى، وقد ولد في بلادنا وبدا مهدداً ومحرماً في القرية الواقعة شرقي حلب، وحب سعيد لسوزان وقد ولد في مكان آخر هو النمسا وكان متاحاً ومباركاً، وعليه نستخلص تنديداً خفياً بموقف الناس عندنا من هذه العاطفة السامية دون أن يقول العجيلي ذلك صراحة، ويرى فريحات أن قصص الحب في هذا الأثر الفني كانت مخفقة جميعها فاقترن الحب بالأسى على نحو متصل، إن الألم الذي يحدثه سرد متشح بالحزن قد يجعلنا نشعر بألم أكبر، ولكن نعود بعده بحكمة أكبر أيضاً، إنه يسهم في تحريرنا من الأوهام في الوقت الذي يجعلنا مطهرين. أما د.النجار فيرى أن نص (عبد السلام العجيلي) يشكل تجلياً للعلاقة بين الثقافي والفني، لاسيما في مسألة وعي الذات بقيمها الثابتة، وحفاظها على تلك الأخيرة في مواجهة متغيرات العالم، أو العالم المتغير، ويأتي تميز هذا النص وذيوعه ووثوق صلة المتلقي العربي والغربي معاً، إلى مسألة وعيه المبكرة للذات والآخر، واكتشاف سر العلاقة بينهما. فيما تناول الناقدان اللبنانيان علي زيتون وعبد المجيد زراقط، الأول المجموعة القصصية (قناديل إشبيلية) والثاني رواية (المغمورون) يقول د.زيتون عن البعد الرومانسي في (قناديل اشبيلية): بدا طرفا ثنائية (الشرق/ الغرب) من الناحية الظاهرية غير قائمين على الاختلاف أو التقاطب، والآلية التي حكمت العلاقة بينهما آلية معقدة و(المشرق العربي /المغرب العربي) في الأندلس لم يكن تماهياً منتمياً إلى الواقع الفعلي، إنه تماهٍ تمّ بفعل الحلم المنتمي إلى الثقافة الرومانسية، وأدبية مرتكزة إلى ذلك الحلم، لا بد من أن ينزاح معها المكان الواقعي لتأخذ داخله (الثنائية) الأبعاد التي تفرزها رؤية الأديب وثقافته، يعني أن المكان في (قناديل إشبيلية) سيكون مكاناً ذاتياً بامتياز، كان يشعر وهو يتنقل في المكان الإسباني أنه يعثر على أجزاء مفقودة من نفسه.. فيما يرى د. زراقط في رواية (المغمورون) أن القص كان يتحرك فيها في حركة خطية، يؤديه الراوي العليم غير المستأثر بموقعه، وللسرد في هذه الرواية حلاوة الحكاية توظف في القص مختلف العناصر من حوار ووصف، وتضمين وخطاب في إنتاج الدلالة الكلية الكاشفة قضية مركزية من قضايا الاجتماع الإنساني ولاسيما مجتمعنا من هذه المرحلة من تاريخنا، وقد كان الروائي حاذقاً في جعل القارئ يتابع القص بشغف وتشوق. العجيلي بين كبش اسماعيل وابراهيم في ورقة مغايرة لما قدم من مداخلات تحدث الأديب محمد أبو معتوق عن (العجيلي.. بين أن يكون كبش إسماعيل وأن يتحول إلى إبراهيم) تحدث خلالها أبو معتوق عن العلاقة الملتبسة بين العجيلي وبين (شباب) الحداثة، من الهجوم عليه إلى التماهي فيه، ويذكر في هذا المجال، إنه في الوقت الذي ظهرت فيه مؤلفات العجيلي وامتدت وترسخت فيها ملامح القص التقليدي، بدأت نذر الحداثة والتجديد تطل برأسها، بدأت بكتابات وليد إخلاصي، وإن كانت حداثته من النوع اللين، لكن وبظهور تياري الماركسية والوجودية أدى لأصداء وزوابع، إذ كان أكثر المتلقين لهذين التيارين الأدباء الشباب في الرقة، الذين وجدوا في حضور العجيلي ومكانته تهديداً لهم، ثم تأسيس (جماعة ثورة الحرف) بتأثير من نبيل سليمان آنذاك وقد انتظم فيها عبد الله أبو هيف، ابراهيم الخليل، رشيد رمضان، ابراهيم الجرادي، وخليل جاسم الحميدي.. لقد حاولت هذه الجماعة أن تثور على كل شيء، واضعة نصب أعين أفرادها أن التقسيم الطبقي هو الذي يصوغ ليس المعرفة والثقافة وإنما الإبداع أيضاً، وتشكلت بذلك بوادر مواجهة طرفاها عبد السلام العجيلي كممثل للتيار التقليدي وجماعة ثورة الحرف كممثلين للتجديد، وتم تحويل العجيلي إلى كبش اسماعيل واتخذ قراراً بالتضحية به على محرقة هذه المعركة، وامتلأت ساحة الأدب السوري بأصداء هذا الصراع الذي دفع بحركة القصة في سورية، وفي هذه الفترة ظهر حيدر حيدر في طرطوس بقصصه وأسلوبه المغايرين.. لكن بعد أن نهض العجيلي من جراحاته - والكلام لأبي معتوق - مطوحاً بالسكين دون أن يسلها لينال بها من أحد أبنائه الغاضبين. النقد الخاص بعبدالسلام العجيلي كعادته في تتبعه للنقد الخاص بالأدباء (جمّع) عبد الله أبوهيف من الكتابات النقدية حول إبداعات العجيلي، فذكر أنه حتى نهاية الستينيات فإن النقد لم يخرج عن المراجعات والانطباعات مثل كتابات صلاح دهني في كتاب (القصة في سورية وفي العالم) 1961، وكتاب سامي الكيالي (الأدب المعاصر في سورية) 1968، وعمر الدقاق في كتابه (فنون الأدب المعاصر في سورية) 1971، ففي هذه المرحلة يذكر أبو هيف أن ما كتب عن العجيلي لا يتناسب مع مكانته الأدبية والقصصية ويرى أن عبد السلام العجيلي عانى من تجاهل النقد وقبليته وتحزبه وإيديولوجياته، فكانت حصيلة ما كتب عنه مقالات وأبحاثاً قليلة قياساً إلى ما أنتج، من هذه الكتب كانت دراسة عدنان بن ذريل (عبد السلام العجيلي - دراسة نفسية في فن الوصف القصص الروائي) 1970، وكتاب مصطفى شحادة (الكشاف التحليل الشامل لما كتبه العجيلي وما كتب عنه) 1975، وإبراهيم الجرادي (دراسات في أدب عبد السلام العجيلي) 1988، ومن هذا التاريخ تبدأ المرحلة الثانية في نقد أدب العجيلي إذ شهدت هذه المرحلة تطور النقد في أدب هذا الكاتب منها ملف عدد مجلة (الكويت) (248 تموز 2004) (حقول القص.. حصاد المعاني) الخاص بالعجيلي، إذ إن النقد هنا شرع بإظهار مستويات الإبداع الفني والفكري لديه في مجال القصة والرواية بخاصة، بينما ما زال النقد حول إبداعه في الأجناس الأدبية الأخرى ضعيفاً... في تجربة العجيلي. الرواية القصيرة عند العجيلي يتناول الدكتور محمد عبيد الله فن الرواية القصيرة عند العجيلي مبيناً تعدد منابع التفرد عنده، ومنها: لغته المتأنقة وهذه تحتاج إلى دراسة أسلوبية خاصة، تكشف سر العلاقة بين الأديب ولغته، ومنها المناخ وخصوصية التجربة فقد طوع الفنون السردية للتعبير عن تجارب دقيقة صعبة... ثم يتحدث عبيد الله عن الرواية القصيرة قائلاً: في مجموعته المعنونة ب(مجهولة على الطريق) نجد عبارة تجنيسية واضحة على الغلاف تصف مكونات الكتاب بأنها القصص قصيرة وطويلة وإذا كان الجزء الأول من العبارة (قصص قصيرة) يبدو واضحاً في دلالته على نوع محدد من الإنتاج السردي، فإن (قصص طويلة) يبدو أقل وضوحاً فهل يشير إلى وصف لطول القصة بمعنى أنها قصة أولاً، لكن حجمها طويل، مقابل قصير في النوع الأول، فالفرق هنا فرق في الحجم أو عدد الكلمات والصفحات.. أم أن تسمية (قصة طويلة) تشير إلى نوع سردي مختلف عن (القصة القصيرة) وعن أنواع أخرى، وخاصة نوع (الرواية) التي كانت تسمى أو سميت أحياناً (قصة طويلة) في صورة اختلاط عشوائي في التسميات وهو اختلاط يتجاوز في التجربة العربية، مجرد الأسماء إلى تشويش في فهم طبيعة الأنواع الأدبية ومسببات تجنيسها وتمييزها.. ?وتوسع الباحث في سبيل توضيح التعريفات أو التسميات التي سبقت وحين ينتهي من ذلك، يتناول قصص العجيلي التالية: الضحية، الحاج، مجهولة على الطريق، ويبحث فيها بحثاً موسعاً ليخلص إلى أنها: نوع ثالث هو (النوفيلا) وهو جنس يختلف عن القصة القصيرة وعن الرواية، بالرغم من أنه يأخذ من مكونات النوعين. موسوعية عبدالسلام العجيلي يشير الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي في مقدمة بحثه إلى موسوعية الدكتور عبد السلام العجيلي التي تجاوز فيها الكثير من الأدباء، وتلازم ذكر مدينة الرقة مع اسمه أو العكس ولتكون الرقة محور العالم للجوال الذي قطع العالم شرقاً وغرباً، مستعرضاً آلية تعرفه على آداب السوريين بدءاً بالمؤسسين العجيلي وفؤاد الشايب وحنا مينا وغيرهم مشيراً إلى تقانة العجيلي واشتغاله بكل أنماط الفنون الإنسانية. وينتقل الباحث إلى عمل العجيلي الموسوم (في كل واد عصا) ويستعرض مقالاته (قلقي على فرنسا) وينقل فيه استغراب العجيلي التطاول على شخص رئيس جمهورية فرنسا لأحد أصدقائه الفرنسيين الذي رد عليه: لماذا تعتقد أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون فوق الشبهات، وفي مقالة أخرى يقول عن إسرائيل: حتى إذا كانت جرثومة الكوليرا اليوم لا تشير إلى الصهيونية إشارة إلى اتهام واضحة فما من شك بأن جراثيم أوبئة كثيرة أخرى ومنها الوباء الذي حل بلبنان تمد كل أصابعها لتشير إلى الصهيونية... ومقالته مؤامرة على فارس الخوري التي تعود به إلى بداية حياته النيابية، وتآمره مع أصدقائه النواب الشبان من أجل أن يهتم بهم، ومن خلال هذا العرض ينطلق ليبين حداثوية العجيلي التي تعتمد على ثقافة تراثية متينة وتوظيفه لها بإمكانيات عظيمة وهو يستعيد بهذه القراءات كتابات العراقيين المؤسسين لفن القصة هناك، وبهذا يضع مقاربة بين المقالات والقصة، حيث تكتب المقالة بحرفية السارد المتمكن ويسميها (المقاصة) التي يرويها راوٍ وتحتوي على الحكاية والنهاية الأقرب للقصة. ثم ينتقل إلى قصة (مذاق النعل) التي تناولت السجن السياسي موضوعاً لها، مشيراً إلى الأعمال الأدبية العربية التي تناولت موضوع السجن السياسي بعد نشر هذه القصة، وتأتي هذه الأعمال لتؤكد بأن المال من بعضه كما يقول المثل، ويطلق سؤلاً في نهاية القصة دون انتظار أي جواب. ويخلص في نهاية بحثه من خلال نصوص (في كل واد عصا) وقصة مذاق النعل إلى هذا التقارب والتلاحم والواحدية عند العجيلي، حيث يدير كل هذه الكتابات بروحية الحكّاء الماهر، وهو ما ينسحب على كتاباته السردية والحكائية الأخرى، ولتتزحزح قناعاته وهو يرى أدبنا العربي وهو يقطع أشواطاً بعيدة في الحداثة، إذ يقول: هكذا أنا أما أنتم فكونوا كما تريدون. العجيلي وسوسيولوجيا التناسل الأدبي هذه شهادة الباحث محمد الجدوع مؤلف كتاب العجيلي والتاريخ حيث يقول: في أسلوب بسيط صاغ العجيلي إبداعاته التي أنجبت عالماً مركباً يتوالج فيه الواقعي بالخيالي والمعقول باللامعقول.. وقد رسخ العجيلي أصالته على ثلاث أثاف لا رابع لها، الأولى: التراث وما يمثله من زاد معرفي بعد غربلته واختيار ما يناسب أو يساهم في نهوضنا الحضاري والثانية: التعامل المنفتح مع الآخر، والثالثة: الواقع الذي عاشه وعايشه. وقراءة العجيلي الكلية تمدنا بالأجيال الإبداعية التالية: الجيل الأول جيل التأسيس (اللون البدوي) ويتضمن القصص التي حدثت في الوسط البدوي والجيل الثاني جيل التحول (اللون الريفي) والجيل الثالث، جيل التنافس والصراع والجيل الرابع، جيل العلاقة مع الآخر، ويبين الباحث تاريخ تلك الأجيال وما حدث لها من تطور أدى إلى تراجعها وظهور الجيل اللاحق، علماً أن الأجيال لا تنتهي تماماً ولكنها تتجاوز أيضاً. حينما ينقلب السرد على السارد شهادة شهلا العجيلي، والعجيلي عمها، لهذا تقول: إذ أكلمكم عن عبدالسلام العجيلي أكون كحامل تمر إلى هجر، فكلكم يحاصصني فيه، ولكنني ظفرت بنصيب الأسد، لأن بيني وبينه شبكة جينات مشتركة. ياللمفارقة كلكم يقاسمني عمي، وأنا لا أقاسمكم أعمامكم فمنذ طفولتي أعرف أنه للجميع ولكن بأنانية طفلة أحببت أن يكون عمي فقط.. وتتابع الأديبة شهلا: إن عمها أراد أن يصرفها عن الكتابة، وتفسر ذلك بميله لتجنيبها وعورة هذا الطريق الشائك، إلا أن الطفلة فيها وقد جعلت عمها قدوتها، كتبت قصصها، وطبعت مجموعتها الأولى، وقدم لها تلك المجموعة اعترافاً بها، وهكذا انقلبت على رغبته... ثم تبين كيف تطور وعيها في القصة والرواية وخصوصية مجتمعها وذلك عن طريق قراءتها لكتب العجيلي، وعن طريق تتلمذها على يديه دون قصد منه وإنما لمعايشتها له وقربها منه. خالقو الأساطير الجديدة قدم الدكتور فاضل الربيعي في بداية شهادته مقاربة بين طريقة العجيلي الساحرة بكتابة القصص التي تتفاعل فيها الشخصيات للارتقاء من السرد المألوف إلى السرد المغاير الموشى بالسحر والغرائبية، والوصول بعناصر الكتابة إلى النسيج الأسطوري الذي يفرض سيطرته وسطوته على القارئ ثم تساءل، هل يعني أن ثمة عناصر أخرى في السرد القصصي والروائي لم تجرب بعد اكتشافها والتعامل معها؟ هي الأكثر تأثيراً ونفوذاً على المتلقي، وربما قد تنتمي إلى نظام السرد الأسطوري أكثر من أن تنتمي إلى جهاز السرد الروائي؟ وهل من المنطقي التساؤل بأن روائي اليوم هو خالق أساطير جديدة؟ وأن يكون هناك تماثل بين نصه من حيث تراكيبه اللغوية الغامضة وعوالمه السحرية المثيرة لبنية الأسطورة القديمة، وبمقاربة بسيطة بين لغة الحلم ولغة الأسطورة اللتين تشتركان في بنية واحدة شبيهة ببنية الحلم على اعتبار أنهما يملكان نظاماً إشارياً. وأضاف: كما يثير اهتمامي كقارئ للرواية السورية الحديثة قدرتها على تقديم مقاربات فكرية وثقافية لهذه الأسئلة. إنه النموذج الذي يعجن الأساطير بسوية مختلفة لإنجاز عملية تشريح للواقع المسكوت عنه ومن خلال هذا التقمص لشخصية راوي الأسطورة القديم واستعارة صوته من أجل أن يخلق لنا أسطورة جديدة، ويعود الباحث إلى استعراض أسطورة قتل الأب واستخدامها في رواية فياض (لخيري الذهبي) وهو بذلك لا يعود بنا إلى الإطار التقليدي للأساطير الابن الضال والمواجهة بين الابن والأب بل في قلب مواجهة من نوع آخر هي مواجهة الوعي الزائف للمجتمع ويستعرض الباحث الرواية الجديدة (ليس اسمها فاطمة) التي تعالج المسألة من منظور أزمة المثقف في مجتمع للوصول إلى الأسئلة المقلقة والمحيرة التي تظل بدون أجوبة ويتعداها في الآونة الراهنة إلى المشكلات التي تواجهنا لها عمومية شاملة بقدر مالها من الخصوصية فنشترك بها كلنا على هذه الأرض وتكون بذلك محور التحديات التي تواجه العالم قاطبة ويؤكد الباحث على مسألة غاية في الأهمية وهي أن القراء لا يبحثون في أعمدة الصحف ولا في تعليقات السياسيين الخادعة عن جواب مقنع بل سوف يتوجهون بأسئلتهم إلى الروائيين الذين يمكنهم أن يقدموا أجوبة خالية من النفاق. ويشير باحثونا إلى انتقاء حالة الافتراق بين الماضي والحاضر، لأن الرواية ليست نتاج العصر الحديث فحسب بل هي ابنة الماضي البعيد والأساطير هي الأم المنسية التي ولدت الرواية المعاصرة ألسنا نعيش في الماضي من خلال الحاضر المتفجر بكل أشكال التقدم العلمي وأنماطه وهيمنة وسائله والذي يستلهم التاريخ ويعيش مفرداته. ثم ينتهي الباحث بطرح ثلاثة أسئلة جديدة هل استنفدت الرواية العربية الأغراض الفعلية للموضوعات القديمة في المجتمع؟ وهل نجح نظام السرد الروائي العربي في تقديم مقاربات جديدة من خلال تشبثه بالمشكلات والمواضيع والمواد القديمة، وأنه سوف يواصل إنتاج الحلول ذاتها للمشكلات ذاتها، وهل سيواصل إعادة إنتاج أبطال الحارة الشعبية أم يتجه إلى خلق أسطورة جديدة؟ وهل يمكن لنا اليوم التحدث عن نهاية ما يدعى العلاقة المتراكبة بين الشكل والمضمون؟ لنا كلمة وهكذا شكلت الرقة ذاكرة العجيلي فكانت المضمون والخلفية المذهلة في أدبه وأحاديثه وفجرت فيه قدرة الكتابة والإبداع مثلما كونت فيه الإنسان فحملها في داخله إلى مشارق الأرض ومغاربها وهي البلدة الصغيرة المنفية في أقصى الشمال على شاطئ الفرات وأحضرها في كل قصصه ورواياته ومقالاته وأحاديثه ومحاضراته ونشرها في الدنيا، كلاهما محب للآخر وله سطوة عليه وكلاهما وفي للثاني ويسكن ذاكرته فقد اختارته نائباً في المجلس النيابي عام 1947 وهو الشاب اليافع وما زالت حتى هذا التاريخ تعتبره طبيبها الوحيد ورغم العدد الكبير من أبنائها الأطباء المختصين بكل الأمراض فقد كشف عليها حين كانت صبية يافعة وقد وثقت بالعجيلي منذ ذلك التاريخ لأنه الأقرب إلى قلبها. نقطة النهاية لهذه التغطية الإعلامية لفعاليات مهرجان العجيلي الأول للرواية العربية، ولكن قبل أن نضع نقطة النهاية هذه، اقترح على الأصدقاء في مديرية الثقافة في الرقة وعلى اعتبار أن المهرجان سيكون سنوياً، أحد أمرين، إما أن يحتفي المهرجان بروائي واحد، تركز المداخلات كافة حوله (أبحاثاً نقدية وشهادات)، أو أن يتناول المهرجان أكبر عدد ممكن من الأسماء الروائية وأظن باعتباره سنوياً أن الاقتراح الأول هو الأجدى، أي أن يكون (احتفاءً) بروائي واحد فقط.