هذا عنوان كتاب أُهدي إليَّ من مؤلفه الزميل الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك، حيث ذكَّرني بكتاب سلف لي بعنوان: (حاتم الطائي بين أصالة الشعر وأسطورة الكرم)، ولمَّا أعد إليه إلا بعد أمة، وما كان لي أن أدعه كما سلف من الإهداءات لمكانة صاحبه، ولأهمية موضوعه.. وأنا حفي بالمبادرين للقضايا الأبكار، وبالمتقحمين لغرائب الأفكار، وبالمختلفين معي حول القضايا المحتملة للاختلاف، والمتّسعة لمزيد من الاجتهاد، ولا سيما إذا كان الباحث ذا باع طويل، وطول مكث في غيابة التراث، وإذا كان ذا مصداقية وموقف، وإن نقض غزل الحقائق أنكاثاً، وبخاصة حين لا يبخس متعلّقات الموضوع شيئاً.. فلقد كانت نُقوله وإحالاته واستشهاداته متّسمة بالعدل والثقة بالنفس، وهو إذ ساق ما له وما عليه، فإن المخالفَ له لا يحتاج إلى تجاوز ما جمع، وتلك ثقة وأمانة، قلَّ توفرها في عدد من الباحثين.. والباحث يُقدِّم عصارة المقروء، ولا يعيده كما بضاعة الأسباط.. ومع كل هذه الاحتفالية بما صنع، فإني عازم على نسف رؤيته من قواعدها، إن كنت لها من المقرنين، وإذ منح نفسه حق الْمحو لكل ما قِيل حول (الوأد) فإنَّ من حقنا تدارُّك الأمر، وجمع الأشلاء المبعثَّرة من تحت سنابك خيله ورجله. ولما كانت النتائج التي توصل إليها من الغرابة، بحيث لا يَحْسُن السكوتُ عليها، ولما كانت آراؤه من الجرأة، بحيث تثير أكثر من تساؤل، فقد فرغت لقراءة الكتاب المثير، وحرصت الحرص كله على الكتاب المثير، وحرصت الحرص كله على الوقوف ملياً على الجهد المضني الذي أنفقه في البحث والتنقيب والتجهيز، وأسفي المضوي أن جهده الجهيد سيذهب سُدى، لقيامه على شفا جرف هارٍ. ومرد ذلك أن المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين المؤرخين المتقدمين منهم والمتأخرين في وجهة، والباحث وحده في وجهة مخالفة.. ومع إصراره على رؤيته الغرائبية وثقته في تقريرها فإنه لا يملك دليلاً علمياً واحداً يعضد به اعتزاله، وما أدري، ولست إخال أدري، أهو يُدافع عن كرامة المرأة، أم يُنافح عن الجاهلية الأولى.. وإذ عوّل على ثلاث حكايات خرافية، وجعل منها مركز القضية، وتصوّر أن نسفها مؤذن بنسف ظاهرة الوأد، فإن الخلوص من مقتضيات النص القطعي الدلالة والثبوت إلى تداعياته مخل بمنهج البحث وآلياته.. وطرائق الباحثين وغرائبية النتائج لن تنسينا براعة التحليل لكافة النصوص المباشرة والمساعدة.. والأمور العشرة التي أجهز بها على الحكايات، أبدت براعة الكاتب، فيما لم تكن الحكايات الثلاث بحاجة لمثل هذا التفكيك، لأنها متهافتة من أساسها، ولمَّا تكن معوّل الباحثين، بحيث تنتهي بنهايتها كل متعلّقات (الوأد) الذي أخرجه المؤسطرون من مستقر المعقولية إلى هلامية العواطف، كما أخرج المفسرون قصص الأنبياء، وكما أُسْطرت الشخصيات الاستثنائية ك(حاتم) و(عنترة)، ولم تكن الأسطرة الطارئة مؤذنة بإنكار القصص أو الشخصيات، وذلك بعض ما فعلته في كتابي عن (حاتم الطائي). وإذ نسلّم بأن الحكايات الثلاث التي قلَّبها الباحث، وقلب من حولها الأمور، لا تصمد أمام البحث، فإن سقوطها البدهي لن يؤثر على ثبات الظاهرة، كما يراها الكافة، لا كما يراها الباحث.. ولأنها أقرب إلى الحكاية الخرافية، فقد رددها كثيراً، وجاء بها مبسوطة وموجزة، وأشار إليها أكثر من مرة، واحتفى بأبطالها وسائر شخصياتها.. وإذ يكون احتمال الكذب والاختلاق في هذه الحكايات الثلاث متوقعاً، بل مقطوعاً به، فإن تأثيرها على الظاهرة لا يقول به إلا متسرعٌ أو مجازفٌ، لا يُكلِّف نفسه مشقة التثبُّت والتبيُّن الحقيقين لكل باحث يخشى يوم المساءلة. وأحب أن أشير إلى أن (عالم الجن) و(عالم الملائكة) وكل العوالم الغيبية التي ذُكِرت في القرآن الكريم لا يُمكن التشكيك بوجودها لمجرد الاستجابة للخرافات والأساطير والوقوعات التي يتداولها المنتفعون حولها، كالقول بالتّزاوج بين الإنس والجن، أو رؤيتهم أو محادثتهم أو إجرائهم للعمليات الجراحية لمن يحبون، مما هو داخل في الوقوعات المحتملة للصدق والكذب، مع أنها إلى الكذب والافتراء أقرب.. ف(الجن) و(الملائكة) أمم أمثالنا، لهم وجودهم الذي لا نعلم كنهه، ولهم مهماتهم في الحياة، وهذا الوجود العقدي لا يعضد الخرافيين ولا البسطاء ولا المتنفعين فيما يدعونه من وقوعات. ولنا أن نقول عن ظاهرة (الوأد) مثل ذلك، فهي حقيقة، لا كما يراها الباحث من أنها (النفس) وإنما كما يراها المفسرون.. وربطها بقبيلة أو بإنسان أو بمرحلة، يخضع للصدق والكذب، ومن حقنا أن نتردد في قبول الوقوعات، لكن ليس من حقنا التّردد في وجود الظاهرة.. ف(الوأد) للبنات حقيقة ذكرها القرآن الكريم بالنص، وأشار إليها في آيات كثيرة، وجاءت أحاديث وقصائد وإجماع على ارتباطها بالمرأة، وليس من واجبنا، ولا من حقنا تحديدها بالصوت والصورة والزمان والمكان والإنسان والعدد والكيفية، والإيغال في الأسطرة والتفصيل لا يلغي حقائق التاريخ. وإذا استساغ المفسرون والمؤرخون والموسوعيون اختلاق الحكايات، وتلقي الإسرائيليات، وإلصاقها بالقصص القرآني، فإن هذا الاختلاق لا يمتد إلى الظواهر الثابتة بالنص القطعي الدلالة والثبوت. ولقد كان للإسرائيليات في تفسير القرآن الكريم أثرها السلبي على التفسير، وكانت مدخلاً ل(المستشرقين) الذين سمَّوا التفسير بالنص الثاني، وتصوّروا قطعية الدلالة والثبوت له، فشككوا في مصداقية القرآن تعويلاً على أسطورية التفسير، والتفسير لم يخل من أساطير بني إسرائيل ومن الخرافة عند القصّاص والمذكرين، وتعويل الجانحين إلى الأسطرة حديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، ولقد دُرس أثر القصّاص والمذكرين السيئ على الحديث النبوي). والباحث في بحثه خلط بين رد الوقوعات المحتملة للرد وتأويل الظاهرة الثابتة وغير المحتملة للشك وفق رؤية المفسرين والمحدثين، ولو أنه تأمّل ما ذهب إليه (العقاد) و(محمد بيومي مهران) و(الحوفي) و(عبد العزيز صالح) لوجد أنهم تحفظوا على الوقوعات وعلى بعض الروايات، لكنهم لم يتعرّضوا لظاهرة (الوأد)، فهم يعرفون جيداً أصول البحث ومتعلقاته.. ودليل مجازفة الباحث قوله عن المفكر الإسلامي الكبير (عباس العقاد) إنه: (ينافح عنه بلغة إنشائية) ويعني بذلك حديثه عن قضية (الوأد) في سيرة الخليفة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه.. والعقاد مفكر وليس منشئاً. والباحث الذي لم يتهيَّب من تخطِئة الكافة لا يجد حرجاً من وصف العقاد بما لا يليق به.. (العقاد) مفكر شهدت له كل الأوساط بعلمية الأسلوب ومتانته، وهو حين يتناول قضاياه، يتناولها بموضوعية وعلمية ولغة راقية، ولم يكن في يوم من الأيام إنشائياً.. ولو أن (العقاد) خرج لينافح عن نفسه، لما احتاج إلا للمثل الشائع (رمتني بدائها وانسلَّت). والباحث المقتدر حقاً تحت تأثير الأنفة العربية والاندفاع العاطفي خالف كل من سلف من المفسرين من (ابن عباس) إلى (سيد قطب)، وخالف الموسوعيين من (الأصفهاني) إلى (الآلوسي)، وخالف اللغويين الذين عوّل على متكآتهم ك(السياق)، ولم يتهيَّب ردود الفعل، وكأن ما سبق من جهابذة العلماء وما لحق شعره في مفرقه، ولست أدري عن حجم الثقة بالنفس حين خالف الإجماع، وأنحى باللائمة على المتقدمين والمتأخرين، وطرح رؤية لم يسبقه أحد إلى مثلها.. ومن المؤكد في زمن العجائب أن يقول المعذِّرون: إن من حق كل مجتهد أن يعيد قراءة النص، وأن يبدي رأيه فيه، وإن خالف الإجماع. وإشكالية القراء المحدثين أنهم ينكبون عن ذكر العواقب جانباً، ويحسبون أن آليات التفكيكية والتحويلية والسياق والأنساق والعلاقات والعلامات قادرة على تبرير الرؤية المناقضة.. ومع الفارق الفكري والانتمائي فإن تقحُّم الباحث لمثل هذه المسلّمات المتواترة، يشبه إلى حد كبير تقحُّمات مماثلة ل(محمود أبو رية) و(نصر حامد أبو زيد) و(عبد الكريم خليل) و(محمد شحرور) و(محمد سعيد العشماوي)، والفرق بين جرأته وجرأة هؤلاء، أن صاحبنا سليم الطوية، ورؤيته ذاتية غير منتمية، أما رؤية أولئك فهي منتمية لتيارات تدور حولها الشبهات. وعلى شاكلة الذين يقدّمون بين يدي غرائبهم ما يرضون به المتلقي، استهل بحثه بإعلان إيمانه (بما جاء في كتاب الله على مراد الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله).. وكان بإمكانه وهو طالب حق ولا شك، أن يسعه ما وسع علماء الأمة من القرن الأول إلى القرن الخامس عشر، وليس من المعقول أن يظل الأعلام من العلماء على جهل بمراد الله ورسوله، فيما يكون الباحث وحده الذي فهم مراد الله ورسوله، وتحقيق مراد الله ومراد رسوله بالرد إليهما، وبسؤال أهل الذكر. والباحث في تغريده خارج السرب عوّل على مشروعية الاجتهاد وحقه فيه، والاجتهاد المأجور في حال الخطأ والصواب لا بد فيه من توفر المادة والإمكانية واتساع الحدث أو الظاهرة لمزيد من الرؤى، إذ ليس كل مجتهد مأجوراً.. والباحث حين أتى المسلّمات كلها من قواعدها، لم يكن له عضد محق أو مبطل.. والمتلقي لن يسلِّم له، ما لم يكن له سلف أو خلف، وما لم يكن معه نص بقوة نصوص علماء الأمة، وليس هو من ذوي الاجتهاد المطلق أو المقيّد، بحيث يكون من ذوي المفردات ك(ابن تيمية) مثلاً.. وإذ تكون القضية مرتبطة ب(علم التفسير) فإن لها أصولها وآلياتها ومناهجها، التي لم يعوّل عليها الباحث بالقدر الكافي، فقوله مثلاً: (أما ما صنعته الروايات غير الموثّقة... فأمر سنناقشه في ثنايا هذا البحث).. والمناقشة لا يكفي فيها ابتدار الرؤية والموقف، بل لا بد من مواجهة الروايات بآليات الجرح والتعديل والتخريج، ومواجهة الرواية بما هو أقوى منها، أو التماس ناسخ أو مخصص، مما هو معروف في علم (مصطلح الحديث).. أما تقليب الرواية خارج هذه الآليات والمناهج والأُطر، فإجراء لا مجال له في مثل هذه الأمور، وكل خائض في قضايا التفسير والحديث والفقه بوصفها مصادر التشريع لا بد أن يكون على علم بأصول تلك العلوم نفسها، ملماً بأسباب الاختلاف ومعوَّل المخالف، وليته يخلط ثقافته بشيء من (الفقه المقارن) كما هو عند (ابن رشد) و(ابن قدامه). وليس يعيب مفسري العصر الحديث عدم خروجهم عن فهم الأقدمين، متى لم تتوفر لديهم قناعة مدعومة بالشواهد والأدلة، فالخروج على الإجماع والتواتر، لا يكون رغبة يبتدرها المفسر أو الباحث، ذلك أن قضايا العلم والفكر لا تخضع للرغبات والفرضيات ونزغات الأنفس الأمَّارة. ولو أن المفسرين المعاصرين بدت لهم ثغرات لنفذوا منها، وهم قد فعلوا ذلك في كثير من القضايا، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم.. والتعويل على الوقوعات لنسف الثوابت تعويل غير معرفي، وفوق ذلك فالبحث حشد من الانفعالات أدى إلى خلط القضايا والتقديم والتأخير والتكرير وجرجرة الحكايات الخرافية بوصفها قابلة للنسف. وحين أشير إلى الهنات واللمم في المنهج والمنتج أعوِّل على تعدد المصدرية وتفاوت أصولها ومناهجها، في حين بدت وحدة التّعامل، فالظاهرة تستمد وجودها من كتب التفسير والحديث والتاريخ والأدب، ولكل مصدر منهجه وأصوله وطرائقه.. والباحث لم يستعن بأصول هذه العلوم في نقض القضية، فعلى سبيل المثال وردت أحاديث في الصحاح والمسانيد والسنن. ودراسة الظاهرة من خلال علم الحديث تتطلَّب استعمال آليات المحدثين ورجال الجرح والتعديل وأساليب الشرّاح وطرق استنباطهم، ويُقال في علم التفسير والتاريخ مثل ذلك.. لقد تجلت مواهب الباحث وتجاربه في (النقد الأدبي) وذلك حين تحدث عن دور الشعر في تكريس الظاهرة، وكانت موازناته ولفتاته في غاية الدقة والموضوعية، وإن كان قد عوّل على آليات الانتحال وأسبابه، وهو تعويل في غير محله.. ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها المثقفون وكُتَّاب السياسة والفكر أنهم يستجيبون لعواطفهم، ويطلقون العنان لعقولهم لتعلو فوق النص القطعي الدلالة والثبوت، ولا يضعون قيمة للنصوص ومقتضياتها، ولا لأصول المعارف التي يشتغلون فيها، فإذا استفحش أحدٌ منهم مدلول حديث أنكره، ولم يتأوّل، والمفكرون المعاصرون أكثر جناية على الحديث النبوي الشريف. ولقد جاءت أحاديث مشكلة، تسرّع البعض في ردّها أو تأويلها، وتصدى لهم من أرشدهم وردّ تعدياتهم منذ (ابن قتيبة) حتى (القصيمي) الذي ألّف قبل انحرافه كتاباً قيماً في تأويل مشكل الحديث.. والحديث النبوي الشريف له مستويات في احتمال الثبوت، كما أن له مستويات في احتمال الدلالة، وله قطعياته ومتشابهاته، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، والنص هنا يعني قطعية الدلالة والثبوت.. ولقد أدرك العلماء خطورة الخوض في العلوم التي لها أصولها وقواعدها دون علم بالأصول والقواعد وطرائق تطبيقها، حتى لقد قالوا: (من تحدّث بغير فنه جاء بالعجائب)، والباحث علمٌ من أعلام الأدب، لكنه دون ذلك بكثير فيما سوى الأدب والتراث، ولا يعيبه ذلك، لكن الذي يعيب تقحُّم سائر التخصصات، ومزاحمة عمالقتها بالمنكب الغض والجناح القصير.