بدت الدراسات التفسيرية والتحليلية للقرآن وخطابه في يوم من الأيام كما لو أنها "نضجت واحترقت" وأشبعت بحثاً، فالمدونة التفسيرية للقرآن الكريم تشكل أكبر إنتاج علمي في تاريخ الإسلام، وعلى رغم التنويعات المنهجية المحدودة لغوية وتراثية فإن الباحثين في التفسير يجدون أنفسهم أمام هذا الكم الهائل من كتب التفسير عاجزين عن تقديم الجديد، وكانعكاس لهذا الوضع فإن الدراسات القرآنية على خطورتها في المعاهد والكليات الشرعية تحتل مراتب دنيا من الاهتمام. غير أن الشيء المثير حقاً في الدراسات القرآنية في العقود الستة الأخيرة هو أنها أثبتت خِصبَ البحث الدلالي في القرآن، إلى درجة يبدو فيها كما لو أنه حقل بكر تماماً! المشكلة لم تكن قائمة في الاهتمام بالدراسات القرآنية عموماً فحسب، بل إن المشكلة في صلبها كانت قائمة في مسألة المنهج، إذ لم يحظ"المنهج"في التفسير بالمعنى العلمي لمفهوم المنهج بالدراسة الكافية في حقل الدراسات القرآنية الدلالية، واكتُفي يتوصيفات أولية، إن لم تكن بدائية لمنهجين المأثور والرأي، هما أقرب إلى تصنيف لأدوات التفسير من من أن يكونا منهجاً للتفسير ومما يدل على أن التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي ليسا منهجين بالمعنى الدقيق، أن كلاً من مفسري الرأي ومفسري المأثور استعانوا بالرأي والمأثور، ووصف التفسير بانتسابه للمأثور أو الرأي يعتمد في الحقيقة على نسبة اعتماده على أي منهما، وبدلاً من أن يكون الخلاف على البحث في مفردات المنهج ومرجعياته، تحول معظم الخلاف بين علماء التفسير إلى خلاف فقهي على جواز التفسير بالرأي وعدم جوازه! وجواز الاستعانة بمرويات أهل الكتاب وعدم جوازه! وتفتقد المعرفة الإسلامية إلى اليوم علماً"مستقراً"لأصول التفسير على غرار أصول الفقه ومناهجه. وإذا كانت مقاربات المقارنة النصية لنصوص القرآن في المنهج الفيلولوجي الاستشراقي أثمرت في الثلث الأول من القرن المنصرم منهج"النظم القرآني"لدى عبد الحميد الفراهي الهندي وفي خمسيناته أفرزت التفسير الموضوعي في مصر والعالم العربي، فإن دراسات المنهج البياني لمدرسة الأمناء في أربعينات القرن المنصرم المتأثرة بالتأوُّليَّة الألمانية Hermeneutics فتحت أفقاً جديداً لدراسات القرآن، وحظي كل من هذين النوعين من الدراسات باهتمام واسع، وهو أمر يوضح مدى أهمية ابتكار مناهج جديدة ودور المناهج الحديثة الموجودة في الواقع خارج منظومة المعرفة الإسلامية التقليدية فيها. ربما كان إخفاء كل من المنهجين المذكورين مرجعيتهما العلمية الغربية علم الدلالة Semantics والانثربولوجيا الثقافية في زمن الحساسية من الغرب وهيمنته سمح لهما بالتوطُّن في حقل الدراسات القرآنية، على تفاوت في الدرجة والنوع، وعلى رغم أن دراستي توشيهيكو القرآنيتين الله والإنسان في القرآن، والمفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن وجدت بعد ذلك ببضعة سنوات، إلا أن أي منهما لم يكتشف حتى وقت متأخر بتأثير الاهتمام الجديد بالبحوث القرآنية من خلال المناهج اللسانية الحديثة، فلا يزيد عمر اكتشاف هذه الدراسات عن عقد بالنسبة الى معظم الباحثين الذي تعرفوا الى هاتين الدراستين، وربما لعب العامل اللغوي دوراً مهماً في تأخير اكتشافهما، فقد كتبت الدراستان باللغة الإنكليزية، ولم تترجما إلى العربية إلا في عامي 2007 و2008! وقد كان الفضل لدار الملتقى بحلب سورية في نشر كل من الدراستين بترجمة عيسى العاكوب، فيما اكتفت المنظمة العربية للترجمة بيروت بترجمة دراسة"الله والإنسان"التي تزامن صدورها مع صدور ترجمتها في دار الملتقى. وعلى خلاف الدرسات السابقة، فإن دراسات إيزوتسو لم تكن تخفي مرجعيتها الغربية الحديثة من الناحية المنهجية، بل كرست وفي شكل مسهب في كل من الدراستين المذكورتين أعلاه فصولاً كاملة لشرح المنهج وأصوله النظرية. وبقدر ما بدت دراسات توشيهيكو حريصة على الأصول المنهجية ودقيقة للغاية بقدر ما حاولت التزام الموضوعية والتنزه عن المواقف الأيديلوجية. لقد كان دراسات استكشافية بالمعنى العلمي للكلمة، فيما الدراسات الحديثة التي حفزت على اكتشاف دراسة توشيهيكو في شكل غير مباشر كانت في الأعم الأغلب أيديولوجية تفتقر إلى الحد الأدنى من الانحياز الفلسفي. الدراسات القرآنية المعاصرة في تحليل الخطاب القرآني وتفسير نصه التي بدأها محمد أبو القاسم حاج حمد في عام 1979 وتلاه محمد أركون في مطلع الثمانيات من القرن الماضي باللغة الفرنسية، وحصلت فيها قفزة بالاهتمام في التسعينات بالمؤلف الذائع الصيت"الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة"للمهندس السوري محمد شحرور، تفتقر على العموم في معظمها إلى ضبط منهجي، وتعاني من تضخم أيديولوجي، وهذه الأيديولوجيا المحفزة لإنتاج دراسات محددة الرؤية والنتائج مسبقاً كانت نفسها محفزة للاهتمام بالمناهج الحديثة لدى البعض منهم وكرهها بأيديولوجيا مضادة لدى كثيرين آخرين. اليوم أصبحت الدراسات القرآنية مفتوحة بالكامل أمام اقتراحات منهجية، وبإمكان المتخصصين في هذه الدراسات أن يصوغوا علماً مستقلاً يدرس أصول تفسير القرآن وتحليل خطابه، ذلك أن ما هو معروف باسم"أصول التفسير"ليس في الواقع علماً مستقلاً ولا واضحاً حتى الآن، فهو في حقيقة الأمر تجميع أبواب من علوم القرآن وأصول الفقه من دون أي تعديل، وهذه العملية تتجاوز في واقع الأمر حقيقة أن أي علم من العلوم حتى يتحقق فيه معنى الاستقلالية لا بد من أن تكون له مقاربته الخاصة التي تجعل كل مفردات أصوله جزءاً من آلة واضحة الهيئة والوظيفة وليست مجرد قطع مركومة على بعضها من دون نظام، كما هو حاصل الآن. إن الفراغ المنهجي في أصول التفسير وتحليل الخطاب الذي كشفته لنا الدراسات الحديثة المستعينة بأدوات ومناهج حديثة يسمح لنا الآن باستثمار المعارف الحديثة في اللسانيات Linguistics والعلوم الاجتماعية Social Sciences بشكل أساسي في إطار العمل العلمي الهادف لتأسيس مباحث وأبواب هذا العلم على غرار علم أصول الفقه، وستشكل النقاشات العلمية التي سيولدها عمل علمي من هذا النوع تطوراً مهماً لن يبقى تأثيره في حدود الدراسات القرآنية، بل سيشمل الدراسات الأصولية ويتعداها إلى كل الدراسات الإسلامية التي تستند في شكل أو في آخر الى القرآن الكريم. * كاتب سوري