قبل ثلاث سنوات وفي ليلة من تلك الليالي التي كنت أقضيها في مكتبي المنزلي ببكين عاصمة الصين الصديقة، ألهمني الله أن أسأل نفسي عن مدى إمكانية القيام بالحج في ذلك العام، اهتديت إلى أن من الواجب والمنطق السعي لتحقيق ذلك فلدي ابنين وابنتين قد أوجب الله عليهم الحج مع الاستطاعة، وجعلت بين ناظري أنني وزوجتي وأبنائي ننعم ولله الحمد بالصحة والعافية والقدرة المالية والجسدية ولذلك فليس هناك ما يحول دون تحقيق ذلك الواجب، فرفعت سماعة الهاتف طالباً زوجتي التي طرحت عليها الفكرة فاستحسنتها وسارعت بالموافقة، واتفقنا على الاستخارة قبل اتخاذ القرار النهائي فتم ذلك بحمد الله، ووجدنا أنفسنا أكثر عزماً وأشد شوقاً لتحقيق ذلك المأرب الجليل، وقامت زوجتي بطرح الفكرة على الأبناء مجتمعين، فكانت الردود مناسبة كما ذكرت لي، فالجميع يرغب في الحج لكن هناك من يتردد خوفاً من عناء متوقع، وبعد بضعة أيام من طرح الفكرة، قدمت إلى الرياض وأخذنا في مناقشة الموضوع، فقبل الجميع والسعادة تغمرهم، واتصلت ببعض الأصدقاء سائلاً عن صاحب تجربة يمكنه أن ينصحنا بإحدى المؤسسات التي يمكنها أن تقدم خدمات تتناسب مع المبلغ الذي قد تطلبه أجراً لتلك المهمة، فتم اختيار إحدى تلك المؤسسات، وتم دفع المبلغ المطلوب، وإجراء الحجوزات اللازمة. أخذنا نوزع المهام ونرسم الخطط فنحن ستة أشخاص مع أخوين كريمين من أهل مكةالمكرمة مرافقين لنا، ولديهم خبرة كبيرة في أمور الحج وأفضل المسالك، وأقصر الطرق وأيسرها، وقررنا أن يكون أحد المرافقين في المقدمة بينما أكون في الخلف وابني على الجانبين لتبقى النساء في وسط هذه المجموعة التي ارتأينا نظرياً أنها أفضل السبل أثناء الازدحام في الطواف والسعي، غير أن الواقع برد خططنا فيما بعد. ركبنا الطائرة إلى مدينة جدة بعد أن لبسنا ثياب الإحرام، راجين الثواب من الباري عز وجل، وبعد وصولنا مساءً إذا بالسيارة الخاصة بنا في الانتظار لتنقلنا إلى منى مباشرة نظراً لإفرادنا بالحج، فوصلنا المخيم الخاص بنا بعد وقت غير قصير نظراً للازدحام المألوف في مثل هذا الموسم وخصصت لنا خيمتان في تلك البقعة الطاهرة، استقررت مع أبنائي بإحداها بينما خصصت الأخرى لزوجتي وابنتي، وكانت كل خيمة بها دورة للمياه، مع مكان للغسل وثلاجة بها ما لذ وطاب من شراب، بعد مبيتنا تلك الليلة قمنا من صباحنا مهللين مسبحين، لنتناول عشاءنا في مساء يوم الثامن ليلة التاسع من ذي الحجة، وحاولنا جاهدين أن ننام مبكرين، وقد أكدنا على سائق السيارة المرافق لنا أن يغادر منزله بمكة مبكراً حتى يكون عند باب المخيم فجر يوم التاسع حتى نصل إلى عرفة بيسر وسهولة، حيث خشينا من أن تتأخر الحافلة المعدة للمخيم ومن ثم نتكبد عناء الانتقال إلى عرفة المباركة، غير أن الأمر لم يسر كما تشتهيه السفن، فقد وصلت حافلة المخيم وركب أهل المخيم وذهبوا قبل أن يصل سائقنا إلينا، نظراً لما واجهه من ازدحام كبير، وكم كان الوقت حرجاً والهاتف لا ينقطع لحث صاحبنا على السير والوصول بأسرع وقت ممكن، وهو يهدئنا بإبلاغنا بأنه قريب جداً من مخيمنا وعند الساعة الثامنة والنصف أطل علينا فركبنا مسرعين داعين الحق أن يتقبل دعاءنا، وسرنا متجهين إلى عرفة، وكان مرافقنا الكريم ماهراً في سلوك أفضل السبل حتى وصلنا بحمد الله إلى عرفات، فإذا بخيمة قد خصصت لنا وغداء فاخر ومصلى وبقينا هناك مع الحجيج يوم الحج الأكبر راجين من الله القبول والغفران، ثم ركبنا ذاهبين إلى مزدلفة بعد غروب الشمس، وتناولنا عشاء خفيفاً وجمعنا الجمرات، وأذكر أن أحد الصينيين قد أقبل يلتفت يمنة ويسرة فقلت في نفسي لعله تائه يبحث عن أصحابه، فاقتربت منه وحدثته بلغة صينية ركيكة عما إذا كان في حاجة إلى مساعدة، فإذا به ينظر إلي بوجوم ثم يسلم علي بحفاوة بالغة ويطلب مني المساعدة في إيصاله إلى مجموعته التي قدم معها، فذهبت معه سائلاً الحرس والحجيج حتى اقتربنا من مكان أصحابه، وكنا نتحدث أثناء ذلك عن الصين ومدنها ومستقبلها دون أن أخبره بمن أكون، بل ظن أنني من أولئك الذين يتعاملون مع الصين تجارياً، عند الوصول أبلغته أنني سفير المملكة في الصين، وأمليت عليه رقم هاتفي إذا ما أحتاج إليه في يوم من الأيام، فزاد اندهاشاً ثم ذرف الدمع، قائلاً سبحان الله أتيه في هذا البلد المبارك ليرسل لي ربي سفير المملكة في الصين حتى يقوم بإيصالي إلى رفاقي، فذرفت معه الدموع وودعته وعدت إلى أسرتي، وفي فجر يوم العيد بادرنا بالذهاب لرجم الشيطان، وكان الأمر مثيراً ثم ذهبنا إلى الحرم الشريف، وكانت الرحلة صعبة والطرق شديدة الزحام فأعاننا الله وطفنا حول الكعبة من سطح المسجد وسعينا أيضاً منه، ثم عدنا أدراجنا بعد عناء جسدي، وفرحة وسعادة روحية لا تضاهيها سعادة وفرحة.وفي طريق عودتنا كان الطريق مليئاً بالحافلات والسيارات ولا سيما بالقرب من المخيم، وفي مثل تلك المواقف يحدث بعض الجدل والخصام بين السائقين، وهو ما شهدناه في مواقف كثيرة فحذرت المرافقين لنا ألا يخاصموا ولا يجادلوا مهما اعتدي عليهم أو أسيء لهم، حتى وإن صدمت سيارتهم، وكانوا على قدر كبير من المسؤولية. وبعد أن أحللنا إحرامنا اغتسلنا ثم لبسنا ثيابنا وأخذنا قسطاً من الراحة، وواصلنا الرجم في اليومين التاليين ثم ذهبنا إلى مكة فطفنا من الدور الأرضي وكان زحاماً شديداً، طبقنا خلاله خلاله جزءًا من خطتنا التي رسمناها، وعدنا بعد ذلك إلى جدة بعد أن أنعم الله علينا بإتمام ركن من أركان الإسلام.