لقد تطرق ابو الطيب المتنبي في شعره الى الطب والطبيب بصورة عامة، والى اسماء بعض الاطباء القدماء، كما انه حاول ان يعزي بعض الامراض الجسدية الى حالات نفسية معينة، وهذا يدل دون ادنى شك على ثقافة شاعرنا الواسعة وعمق التفكير. قال ابو الطيب في قصيدة يصف بها كلباً ارسله ابو علي الاوراجي على ظبي: علم بقراط فصاد الاكحل فحال ما للقفز للتجدل يقول العكبري في شرح هذا البيت: حال: انقلب, والقفز: الوثوب, والتجدل: السقوط على الارض, والجدالة: الارض, وبقراط: حكيم قديم، وبه يضرب المثل في الطب, والاكحل: عرق في الذراع من عروق الفصاد, والمعنى: نقد الصاحب ابن عباد على المتنبي هذا البيت، فقال: ليس الاكحل بمقتل، لأنه من عروق اوردة الفصاد، وهو يصف الكلب بالعلم بالمقتل، وهذا خطأ ظاهر, وقال القاضي ابو الحسن: لم يخطىء ، لأن فصد الاكحل من اسهل انواع الفصد، فاذا احتاج بقراط الى تعلم فصد الاكحل، فهو الى العلم بغيره احوج، وهذا قال الواحدي ليس بجواب شاف، والجواب ان الكلب اذا كان عالماً بالمقاتل، كان عالماً ايضاً بما ليس بمقتل، وانما يحتاج بقراط الى تعلم ماليس بمقتل، فلذلك ذكر ابو الطيب فصد الاكحل في تعليم بقراط. لقد بين الشاعر في بيته السابق ان الطبيب في بداية تعلمه للطب، يبدأ في تعلم الامور السهلة، ومنها الى الاصعب فالاصعب وبالتدريج, والفصد طريقة قديمة ولا تزال تستخدم لإخراج الدم من الجسم، يعتقد من وراءها انها تخفف من آلام البدن. من هو الحكيم أبقراط؟ يقول المصري ابن نباته 1406 ه 1986م : هو ابقراط ابن ايراقليس, يقال: انه سابع الاطباء الذين اولهم اسقيلبيوس، وهو قبل سقراط وافلاطون, وقال جالينوس في بعض كتبه: ان ابقراط كان يعلم مع ما كان يعلمه في الطب من امر النجوم مالم يكن يدانيه فيه احد من ابناء زمانه، وكان يعلم امر الاركان التي منها تركيب ابدان الحيوان,, وهو الذي برهن كيف يكون المرض والصحة في جميع الحيوان والنبات، واستنبط اجناس الامراض وجهات مداواتها، وهو اول من اتخذ البيمارستان مجمع المرضى المستشفى ، وذلك انه عمل بالقرب من داره موضعاً مفرداً للمرضى، وجعل لهم خدماً يقومون بمداواتهم, وتفسير ابقراط ضابط الكل, وقيل: ضابط الحيل، وهوالصحيح, ومن كلام ابقراط: سلوا القلوب عن المودات، فانها شهود لا تقبل الرشا, وقال: الاقلال من الضار خير من الاكثار من المنافع يعني من المآكل والمشارب, وقال: خير الغداء بواكره، وخير العشاء بوادره يعني بذلك المبادرة به في بقايا النهار والضوء متمكن، وقبل الدخول في حد النوم, وقال: استهينوا بالموت، فان مرارته في خوفه, ولما حضرته الوفاة، قال: خذوا مني العلم بغير حسد، من كثر نومه، ولانت طبيعته، وندبت جلدته طال عمره. وقال ابو الطيب المتنبي في قصيدة يعزي بها عضد الدولة، وقد ماتت عمته: 1 يموت راعي الضأن في جهله موتة جالينوس في طبه 2 وربما زاد على عمره وزاد في الامن على سربه يقول البكري في شرح البيت الاول: راعي الضأن: هو اجهل القوم، وبه يضرب المثل في الجهل, والمعنى: يريد ان الموت لم يسلم منه الشريف ولا الوضيع، ولا الطبيب ولا المطبوب، ولا العاقل ولا الجاهل، فالجاهل يموت، كما يموت اللبيب الحاذق، وهذا من احسن الكلام وألطفه وأبينه. ويقول العكبري عن البيت الآخر: السرب هنا : النفس, والمعنى: يريد ان راعي الضأن ربما زاد عمراً على جالينوس، وكان آمناً نفساً وولداً على جهله، وقلة علمه، وهذا كله يريد ان الموت حتم على جميع الخلق. من هو جالينوس؟ يقول ابن نباتة المصري 1406ه 1986م : جالينوس هو آخر الحكماء المشهورين، ويسمى خاتم الاطباء والمعلمين، وذلك انه عندما ظهر وجد صناعة الطب قد كثرت فيها اقوال الاطباء السوفسطائيين المجادلين او الجدلين ومحيت محاسنها، فانتدب لذلك، وأبطل آراءهم، وشيد اراء ابقراط والتابعين له ونصرها، وساح وطلب الحشائش، وجرب وقاس امزجتها وطبائعها، وشرح الاعضاء، ووضع الكتب النفيسة في هذه الصناعة. ويقول حتحوت 1402ه 1982 : لم يدر ابو الطيب انه بهذا الشعر حفظ ذكرى الطبيب جالينوس لدى القارىء العربي اكثر من ذكرى عمة عضد الدولة التي ألف في رثائها هذه القصيدة ,, والا لبقي جالينوس خبيئاً في اضابير تاريخ الطب، ولما اتيح لي حتحوت وللملايين غيري ان تنطق ألسنتهم باسمه منذ بواكير دراستنا الثانوية حتحوت: طبيب وكاتب ,, ونقلب صفحات تايخ الطب لننظر الى الطبيب جالينوس الذي عاش من سنة 130 الى سنة 200 بعد الميلاد فنبصر انه كان نابغة عصره في الطب، وانه كان النجم المتألق في روما وفي غيرها في ذلك العصر, وذلك بأن مما ارتآه جالينوس ان الجسم وعاء الروح,, وأن الموت يصيب الجسم فيتحلل ويعود تراباً، اما الروح فتغادر الجسم وتظل باقية,. وقال الشاعر المتنبي في قصيدة يذكر بها حماه التي كانت تغشاه في مصر: 1 يقول لي الطبيب اكلت شيئاً وداؤك في شرابك والطعام 2 ومافي طبه اني جواد اضر بجسمه طول الجمام 3 تعود ان يغبر في السرايا ويدخل من قتام في قتام 4 فأمسك لا يطال له فيرعى ولا هو في العليق ولا اللجام يقول العكبري في شرح البيت الاول: المعنى: يقول: الطبيب يظن سبب دائي الاكل والشرب، فيقول لي: اكلت كذا وكذا, يعني مما يضر، فسبب دائك الاكل والشرب. ويقول العكبري عن البيت الثاني: الجمام: ان يترك الفرس فلا يركب والمعنى: يقول: ليس في طب الطبيب ان الذي اضر بي وبجسمي طول لبثي وقعودي عن السفر، كالفرس الجواد، يضر بجسمه طول قيامه، فيصير مجموماً مترهلاً , والجمام: ضد التعب. ويقول العكبري عن البيت الثالث: القتام: الغبار, والسرايا: جمع سرية وهي التي تسري الى العدو, والمعنى: يقول: تعود هذا الجواد ان يثير الغبار في العساكر، ويدخل من هذه الحرب الى حرب اخرى، وأراد بدخول القتام حضور الحرب. ويقول العكبري عن البيت الرابع: المعنى: امسك هذا الجوا لا يرخى له الطول، فيرعى فيه، ولا هوفي السفر فيعتلف من المخلاة، وليس هو في اللجام، وهذا مثل ضربه لنفسه، وأنه حليف الفراش، ممنوع من الحركة. يشعر المرء عند قراءته لأبيات الشاعر الاربعة السابقة بأن شاعرنا المتنبي كان في حالة نفسية من الهم والغم والكدر والقهر، وأن جيمع آلامه الجسدية ناتجة عن آلامه النفسية، فهو كان ممنوعا من الحركة في اقامة جبرية ، ومن الرحيل ومغادرة مصر، فهو كان في حالة نفسية وجدانية قهرية، انصبت على بدنه فأوسعته من الالم والمعاناة, وهذا يعني ان مرضه ليس ناتجاً عن مأكله ومشربه، والطبيب لم يعرف ماهية علته، لأنها نفسية ذاتية هو ادرى بها من الطبيب. يقول الدسوقي 1408ه 1988م في تعليق له في قصيدة الحمى التي منها الابيات الاربعة السابقة: تأمل كيف يصل الشاعر العبقري الى ادق النظريات العلمية فنحن نعرف الآن من خلال بحوث الطب النفسي، ان هناك قسماً من اقسام هذا العلم يبحث في الامراض العضوية التي تنجم عن اسباب نفسية, لا اريد الدسوقي ان اقول ان المتنبي كان على علم بنظريات الطب النفسي، ولكنه توصل بفطرته الفنية وشاعريته الى ادق حقائق هذا العلم, وهذا سر من اسرار عبقريته الشخصية وجاذبيتها.