منذ نُقلت إلى هذه المدرسة وأنا وهو على موعد في ساعة الصفر الصباحية، وأنا أجتاز العتبة قدم بالداخل وأخرى بالخارج يدوي الجرس باتراً آخر آمالي في اللحاق بركب المنتظمات. لما سمعته اليوم نكست رأسي وهمست: صباح النور ثم لملمت أطراف عباءتي وسرت نحو الإدارة، لم أجد بها أحداً، اتجهت لسجل الحضور المتربِّع على صدر مكتب المديرة (لا بد أنها قد وشمت اسمي بعلامتها الحمراء القاتلة ومضت لطابور الصباح قريرة العين). انحنيت عليه لأوقِّع ففوجئت باسمي ينتصب شامخاً دونما قيود!! تذكّرت دعوة أمي لي البارحة (الله يسهِّل لك كل أمر) وقّعت وخرجت. على الباب قابلت الوكيلة تتهادى بعباءتها وابتسامتها الواثقة، ألقت تحية لا تشبه تحيتي المرتعشة التي أقذفها تحت قدمي المديرة كل صباح. غضبت، اشتممت في الموقف رائحة تلاعب، اتجهت لغرفة المعلمات، وجدت المديرة خارجة منها، ردت تحيتي المقتضبة بابتسامة ساخرة: يوه نسيت أن أقفل الدوام!! هززت رأسي (لا تحاولي كشفتك) لما ابتعدت ترامى إلى مسمعي صخب التلميذات فشهقت: اليوم الأحد!! كوّمت عباءتي والحقيبة ودفتر التحضير على الطاولة وجريت نحو الساحة، حشود التلميذات مضطربة وزميلتي في المناوبة تحاول تنظيم الصفوف دون جدوى. أسوأ ما في يوم الأحد أن التلميذات يستقبلنه دون أن يفقدن حيوية ما بعد إجازة نهاية الأسبوع. مع توافد المعلمات وجدت إحدى التلميذات تضاحك زميلتها فشددت أذنها: ما الذي يضحكك في صباح كهذا؟ تلاشت ابتسامات عديدة وخفتت همسات ووجمت وجوه، تأملتهن جيداً، أردت أن أكون حازمة أكثر فمددت قامتي حتى شعرت بألم في أسفل ظهري، ثم فردت منكبي وشبكت يدي خلفي وعقدت حاجبي بعدها زفرت بقوة فصمتن جميعاً ما عدا الفصل الشقي، ركّزت أنظاري عليهن وصرخت: رابع (أ) تلفتن لبعضهن مرتاعات واضطرب جمعهن أكثر. من بعيد وبلمسات سحرية صرت أسوّي صفهن: أرفع يدي بشكل مستقيم وأشير بها للداخل فتتراص الجهة اليمنى، أشير باليسرى فينكمش جانبهن الآخر. ارفع راحتي المفتوحة عالياً فيجمدن، خلف الصفوف لمحت حقيبة صارخة الألوان تتسلّل محاولة الوصول لفصلها (الشقية الصغيرة تستغفلني) صرخت فيها: هدى متأخرة اليوم بعد؟! انتفضت الحقيبة قليلاً قبل أن تسكن ليطل وجه مبعثر الملامح، خفت أن تبلِّل نفسها فأشرت إلى زاوية الساحة، حيث تنتصب السدرة الكبيرة: قفي هناك حتى تراك المرشدة، هذا التأخير المستمر لا يمكن السكوت عنه، تابعتها بعيني وهي تنزوي، حيث أمرت ثم مسحت بناظري الصفوف مبتسمة فلمحت المديرة، ارتعش فكي وأنا أتذكر كلماتي عن التأخير المستمر. أحسست بحرارة في عنقي وأذني، حككت أنفي بأصابعي الباردة الرطبة ثم عقدت ساعدي على صدري لأهدئ ضربات قلبي المتسارعة، التفت للتلميذات وهتفت: الإذاعة. بعد انصراف الطابور استعملت كافة صلاحياتي كمناوبة ففرضت الأحكام العرفية وحظرت التجول بين الفصول إلا بإذن مني وللحاجات الملحة. بعد الفسحة فوّضت المهام الأمنية لزميلتي في المناوبة ووقفت بباب غرفتنا مقطوعة الأنفاس وقد تدلت خصلات شعري على جبيني وحول عنقي، نقرت بأصبعي الباب وقلت: يا معلمات لو سمحتن.. الحصص. بعضهن خرجن متكاسلات فيما أصرت الأخريات على إتمام حكاياهن السمجة عن مستجدات أحداث اليوم الدراسي، وآخر المواقف الدالة على نباهة الأولاد وتسلّط الأزواج، ثم أعدن تمثل المشاهد المثيرة في حلقة المسلسلة المسائية البارحة. ضربت الباب بكفي وقلت بنبرة حاولت ضبطها: يا عزيزاتي مرَّت دقيقتان على بداية الحصة الرابعة. نظراتهن المستنكرة لم تزحزحني عن موقفي. خرجن متذمرات وعلى العتبة كوّمت إحداهن سؤالاً طريفاً عن سبب استمرارها في العمل تحت ظروف اضطهادية. صباح الاثنين وصلت أيضاً متأخرة، وجدت اسمي في سجل الحضور شاكياً وقد مثِّل به أبشع تمثيل. ولمَ لا فالوكيلة لم تتأخر اليوم. لم أناقش الإدارة حول هذه المسألة فالوقت ضيق وأنا لم أكمل تحضير دروسي، لم أخرج للطابور رغم وقفة الوكيلة الاستفزازية. ضرب جرس الحصة الأولى ولم أزل واقفة قرب الباب أحضّر آخر حصة. فجأة أحسست بنسمات حارة تلفح عنقي، التفت فاصطدم كتفي بقامة المناوبة المتصلبة، نقرت بأصبعها على ساعتها بحركة ليست غريبة علي وقالت: مرت دقيقتان. عقدت حاجبي ورددت مستنكرة: وإن كان الوقت الباقي طويلاً.. والفصل لن يطير. تراجعت قليلاً ثم قالت بخبث: فقط أردت إبلاغك أن المديرة خرجت في جولة تفقدية مفاجئة و.. يقال إنها قد تحضر حصة عند إحدى المعلمات. ألقيت بدفتري بين يديها وركضت نحو فصلي. لما دنوت منه وجدته هادئاً هدوءاً مريباً. من زاويته أطل حذاء المديرة بكعبه العالي.