أقلتنا تلك الحافلة عندما لم نجد سبيلاً لعربة أخرى تحملنا إلى مكان ما. صعدت مع أمي وجلسنا؛ توقفت الحافلة عند إحدى المحطات وإذا برجل ضرير يصعد ممسك به ابنه الصغير الذي لا أعرف تقديراً لعمره ما بين السبع والثماني سنوات! كان الطفل مرشداً لوالده فكلما توقفت الحافلة أمام موقف ما ينحني والده ويسأله عن المكان الذي تسير فيه الحافلة، فيجيبه الصغير بأدب جم وصوت خفيض حتى وصلا إلى محطتهما.! وكم كانت مفاجأة لي عندما نزل الصغير متأبطاً ذراع والده محاولاً أن يتجه به إلى الجانب الآخر من الطريق العريض، الذي تكاد تلتهمه السيارات المسرعة. فإذا بي أمام طفل لا يكاد يستطيع أن يرى أمامه مثل والده! وبمجرد أن تركا المكان وأنا أفكر فيهما أب ضرير حُرم نعمة البصر وابنه يساعده، وهو المعين له أو عيناه اللتان يرى بهما الكون ويعينه على قسوة الحياة! دعوت الله سبحانه بقلب خاشع أن يسبغ عليه من نعمائه ليكون خير دليل لوالده، الذي فقد نعمة الإبصار، ولا يرى الدنيا إلا بهذا البصيص الضعيف الذي يمثل له الحياة وضياءها.! وكلما وقفت على مشاهدة الحياة يضيق صدري وأتعلم أن الدنيا ملأى بالمآسي الكثيرة، بدءا من الطفلة التي كتبت عنها ترجمان أبيها حتى الطفل الصغير المعين لأبيه ذي البصر الخافت! وأعجبت بهذا الفارس المغوار الذي رسمت صوته في مخيلتي فهو يتحدى اعاقته بعينين مغمضتين يمضي في العتمة التي أحاطته، إلى الحلم! رغم أنه حُرم ضحكات الأطفال ولعبهم إلا أن روحه ترسم البياض في الفضاء الشاحب؛ وتضيء الكون من العتمة بشمعة تلامس قلبه الذي أزهر ببنفسج وزنبق. يسرق من الصبح نوره ومن الليل نجومه، ومن العصافير أجنحتها. يفترش قلبه لأوجاع الحياة هكذا أراد القدر ليمضي بثقة وإيمان. *مرفاً: يشعلُ قلبه الصغير مصباحاً لمطارق الحياة!