قد لا يكون شيخنا عبدالله بن حسن بن قعود - رحمه الله - نسيج وحده في كل شيء لكنه في بعض سجاياه التي توَّجه الله بها كذلك وأكثر إن شاء الله تعالى، ولا يعرف هذا التميز لديه إلا من اقترب منه، فمنذ أن التقيته في عام 1404ه - تقريباً - وهو يكبر في عيني، حتى كان يوم وفاته - رحمه الله - فرأيته أكبر بكثير من كل ما مضى، وتأكدت لي هذه الصورة، وأنا أرى آلاف المحبين - وأجزم أن فيهم من لم ير الشيخ البتة - يهرولون إلى جامع الإمام تركي بن عبدالله - رحمه الله - حتى غصت بهم جنباته ومساحاته، ثم ازدحمت الشوارع وضاقت بالسيارات التي سارت خلفه إلى المقبرة ولم يستطع الكثير من الوصول إليها بسيارته فترجل من مسافات بعيدة ليكمل السير على الأقدام برغم قرب موعد الإفطار، وفيهم من قدم من مسافات بعيدة، بل فيهم من قدم من خارج الرياض. لن أتحدث عن ولادته ونشأته - رحمه الله - لأني قد كفيت بمن سبقني في الكتابة عنه، ولكن سأتحدث عن تلك السجايا والمواقف التي عشتها معه ولمستها في شخصيته، وقد يستغرب البعض تلك المكانة التي تسنّمها والمرتبة التي اعتلى شرفها، لكن يزول العجب إذا عرف أن الشيخ عبدالله كان من خواص تلاميذ سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز- قدس الله روحه- ذلك النبع المتدفق بالخير والمصباح المتوهج بنور العلم، فشيخنا ابن قعود كان مرة من ثمار تلك الشجرة المباركة التي لا أعرف في العصر الحديث لها نظيرا في ثمارها وظلالها، وكان الشيخ ابن باز يعتمد عليه كثيراً في الأمور المهمة، ورفيق دربه - لسنوات طويلة - في اللجنة الدائمة للإفتاء. لقد كان الشيخ ابن قعود مهيباً إذا رأيته ولكن حين تجالسه ترى التواضع والتقدير في أجلى صوره، وبحق فهو في هذا الجانب أنموذج فريد يعزّ أن تراه في واقع كثير من العلماء وطلبة العلم، وهو أمر ليس بالهيّن على النفوس الكبيرة، ومما يزيده إشراقاً أن الشيخ لا يتصنعه ولا يتكلفه بل كان سجية له يتصف بها، وكنت ألحظ هذا حتى في تعامله مع سائقه الخاص وعوام الناس ولو ذهبت أذكر بعضاً مما شاهدته لطال المقام. والشيخ نحيل الجسم لكنه قوي القلب لا يداري على حساب الحق، وله في ذلك مواقف مشهودة. ولقد رأيته في مجلس ضمّ عدداً من العلماء الكبار فكان- رحمه الله- صريحاً وقوياً في عرض ما يراه القول الصواب دون مجاملة. كما كان الشيخ ضعيف الصوت لكنه كان قوي العبارة جزل المعاني عرفته المنابر على مدى أربعين سنة أو أكثر يرتجل خطبه المؤصلة بأدلة الكتاب والسنة والمدعمة بأقوال الأئمة بعيداً عن الإنشاء وتهييج العواطف بعبارات رنانة، بل كان- رحمه الله- تكسو صوته مسحة خشوع تسبق فيها عبراته عباراته. أما أفضل ما رأيته في شيخي فهو تعظيم الأدلة والتقدير الكبير لأقوال الأئمة، خصوصاً عند اختلافهم، فلا ينتقص القول المرجوح مهما كان شأنه ما دام أنه يعتمد على دليل، ولقد استفدت من هذا المنهج كثيراً وأصبحت قراءتي لأقوال أهل العلم ودلالات النصوص تختلف عما سبق، وهذه تالله فائدة لا تقدر بثمن، وكم نحتاج إليها كثيراً خصوصاً نحو طلبة العلم الذين ما إن يحصل بعضهم جملة من العلوم إلا وينظر باستعلاء للأقوال التي يختلف معها، وفوق ذلك يعمل فهمه القاصر في هزّ النصوص بل وردها أحياناً فالله المستعان. وبالجملة فقد كان شيخنا عبدالله بن قعود - رحمه الله - بقية من بقايا السلف الصالح نسأل الله أن يغفر له وأن يجعل ما أصابه رفعة لدرجاته وأن يخلفه في المسلمين خيراً إنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.